أعلن بداية أنني ممن يؤمنون بنظرية المؤامرة، ليس إعفاء للعرب والمسلمين، من أخطائهم، التي كلفتهم تآمر أعدائهم عليهم، وإنجاح مخططاتهم، ولكن ثقة مني بأني لم أتعرض لفقدان الذاكرة يوما، فينسيني ما حلَّ بأمتي العربية والإسلامية «والتي من أهمها وعد بلفور وإقامة وطن قومي للصهاينة في فلسطين» وثقة مني أيضاً بأني لم أتعرض لغسيل الدماغ يوما....
وأعترف بأني عندما أثير موضوع تركيا وأتطرق لأمور لها بعدها التاريخي أصاب بكثير من الحسرة والألم فلن أتطرق لانهيار الأندلس، ذلك المجد القديم وتلك الامبراطورية الإسلامية العظيمة الممتدة من الجزيرة العربية إلى إسبانيا، حيث غرناطة وقرطبة وأشبيليا لأكثر من ثمانية قرون، كان العرب والمسلمون في أوج قوتهم وعظمتهم والحضارة الإسلامية في أوج ازدهارها، و«واحدة من أشهر المؤامرات على المسلمين»، بل سأبدأ بتصرف كمال الدين أتاترك، الذي قام بإلغاء الحروف العربية من اللغة التركية واستبدالها بالحروف الغربية بداية لطمس الهوية الإسلامية مروراً بالعلمانية وصولاً إلى تحويلها وتهيئتها تماماً لتكون دولة أوربية، ومرت عقود من الزمن وقدمت تركيا كل التنازلات الصعبة والمؤلمة والتي في مجملها ضربات موجعة للأمة الإسلامية من أجل تحقيق الحلم الذي أرسى قواعده أتاترك في جيشه العلماني، لتكون تركيا دولة غربية، ومع كل ذلك وكلما ظنت تركيا أنها قريبة من ذلك الحلم بدد آمالها الاتحاد الأوربي، لأنه لا يكفي كل ما قدمته تركيا للغرب ولا لحلف «الناتو» (N.A.T.O) ولا لإسرائيل «بأن تسمح بإجراء تدريبات عسكرية معها لتكون مهيأة بشكل أفضل لضرب العرب والمسلمين»، كل ذلك لم يمح عن تركيا أمام أوروبا كون 99% من سكانها مسلمين، فالدين الإسلامي هو العائق الأوحد والأكبر أمام تركيا، وتلك الحقيقة المرة مع الغرب الذي يدَّعي احترامه للأديان والاختلافات والخصوصية، والذي يجيد الشعارات الهشة والعارية عن كل الحقيقة والتي سرعان ما تتبدد وتتلاشى أمام المواجهات مع الإسلام والمسلمين على أرض الواقع، فيبدو أن الغرب لديه أمل بأن تتخلى تركيا عن الإسلام كما تخلت عن أحرف اللغة العربية ذات يوم، وعن دورها في نصرة الإسلام والمسلمين.. وماذا جنت تركيا من أمريكا التي تعتبر تركيا منذ عام 1979م الصديق والحليف صاحب المكانة المتميزة «الجيبولوتيكية»، فتحرص الإدارات الأمريكية المتعاقبة ديمقراطية كانت أم جمهورية على احتضانها ووضعها تحت مظلتها، وعلى الرغم من أن قرار توسعة حلف «الناتو» جاء بقرار ومصلحة أمريكية إلا أن أمريكا أعلنت عن مخاوفها صراحة على لسان وزيرة الخارجية السابقة مادلين أولبرايت في عام 1998م بأن الاتحاد الأوربي يهدف من وراء تلك التوسعة إلى استبعاد تركيا واستبدالها ببلدان أخرى، فأدركت أمريكا أنها ستخسر حليفاً إستراتيجياً فريداً من نوعه لا تريد له أي فرصة للتقارب مع العرب والمسلمين والدخول معهم في أي تجمع أو منظومة، على الرغم من أن جميع المراقبين والأتراك أنفسهم يدركون أنهم داخل حلف الناتو ليسوا أكثر من «حامل أختام الحلف»، لقرارات لم يشاركوا في صياغتها، فتركيا التي تشكِّل جيشاً أوربياً ليست لها مشاركة فعلية في آلية القرارات وهذا ما يضعف موقفها حيال المشكلة القبرصية، واليونان، وبحر إيجا، وخاصة أنها ترفض اللجوء إلى محكمة العدل الدولية، وعلى الرغم من الضغوط الأوربية المتتالية على تركيا أعلن وزير خارجيتها، إسماعيل جيم، أن تركيا لن تضحي بمطالبها الأمنية المشروعة في ضم قبرص الشمالية، مقابل عضويتها في الاتحاد الأوروبي.. إذ لم ينفع الاتحاد الأوربي يوما تركيا في أي من قضاياها وخاصة السياسية والأمنية.. ولم تحقق لها أمريكا شيئاً من طموحاتها.
فكيف نقرأ الجولة التي قام بها رئيس الوزراء التركي عبدالله غول مؤخراً، في بعض الدول العربية والإسلامية مثل «مصر وسوريا والأردن والسعودية وإيران» تزامناً مع طلب تركيا من جامعة الدول العربية دخولها الجامعة كعضو مراقب، هل هي ورقة في وجه الاتحاد الأوروبي؟ أم مناورة أمريكية؟ أم فرصة أتت للعرب في عقر دارهم ليكسبوا تركيا الآن؟ لماذا لا يقدم العرب لها كل المغريات؟ وصراحة فلكل شيء ثمن والعرب دفعوا أثماناً كبيرة وباهظة في غير محلها في السابق، وعليهم الآن أن يعيدوا حساباتهم من جديد ويبحثوا عن مصالحهم وأن يفتحوا أسواقهم لها، ويفتحوا آفاقاً للتعاون التجاري والاقتصادي والأمني والعسكري.. إلى آخره من التعاون الذي يجب أن يكون قائماً من أجل صالح الأمة العربية والإسلامية والقضية الفلسطينية بشكل خاص.. لماذا لا يتقارب العرب مع تركيا؟ ألم يفتحوا صفحة جديدة مع إيران وتقاربوا معها، وشعر كل مواطن مسلم بازدياد قوة الصف الإسلامي.. لماذا لا نكسب تركيا الآن والآن بالذات؟ ولقد سئمت الوعود الأوربية وتبديد الاتحاد الأوربي بشكل دائم آمالها في الانضمام اليه وفي نفس الوقت.. لا شك أن العرب والمسلمين بحاجة إلى تركيا ولا بد من فتح مجال للتعاون معها على كافة الأصعدة فذلك سيكون له انعكاسات إيجابية كبيرة على قضايا الأمة الإسلامية، وله أبعاده الإستراتيجية التي من أهمها إعادة موازين القوة في منطقتنا إلى الحد المعقول.
وسيضع تركيا في موقف حرج مع إسرائيل، فلن تكون مستسلمة للرغبات الأمريكية بالشكل المطلق كما هو الحال الآن لأنها خارج المنظومة العربية والإسلامية. إن تركيا الآن هي من بادر بالتلويح بتلك الورقة الغاية في الأهمية، وعلى العرب جميعاً استغلالها على أكمل وجه، وألا يضيعوا تلك الفرص المهمة التي قد يصعب أن تتكرر مرة أخرى، فهل يدرك العرب أهمية استغلال ذلك والعمل على تقارب حقيقي وعملي مع تركيا؟
وهل تدرك تركيا أنها لن تجني من أوروبا أكثر مما جنت، وعليها أن تكسب العرب الآن لتكسب أسواقاً ودعماً مادياً واقتصادياً، وأن تعود إلى هويتها الحقيقية، فالغرب لن يراها سوى باليشمك والطربوش والقميص العثماني، فلقد ضيّعت هويتها عقودا فماذا كسبت؟ فلتعد لهويتها الحقيقية ولدورها الحيوي والمعهود في نصرة الإسلام والمسلمين ولتعد إلى حضن الأمة المسلمة، ولتقف في وجه أعدائها.. لتدور الدائرة ولتكون تلك البداية للعودة لسابق عهدنا.. فكلنا تعلمنا دروساً قاسية «عرباً ومسلمين» أفلم يئن الأوان بعد للتحرك في هذا الاتجاه الوحيد المتبقي أمامنا والوحيد غير المشكوك في أهميته وانعكاساته الإيجابية لصالح المسلمين وأمتنا الإسلامية ككل.....؟
وتبقى عدة أسئلة تطرح نفسها:
كيف ستتعامل الدبلوماسية العربية مع المطلب التركي؟ وهل الجميع يدرك أهمية ذلك وأبعاده الإستراتيجية على منطقتنا؟ أم ستهدر مزيداً من الفرص كما أهدرت فرصاً كثيرة وثمينة سابقة ولم تعوّض بعد....؟ وخصوصاً أن جامعة الدول العربية تعاني من عدم تفعيل دورها وقراراتها بالشكل الذي يخدم قضاياها، فبعض الدول لا تحرك ساكناً داخل الجامعة العربية، والبعض يريد الخروج منها، والبعض الآخر يتحمل تبعات ذلك..
فاكس 6066701-02
ص.ب 4584 جدة 21421
|