لم تستطع الرمال ان تجرف محمد علوان عن قريته، وتربته، وجذوره ولا عن قرية الإبداع وجذوره.
كما لم تستطع ان تزيحه عن النبع الذي استلهم منه ماء القصة، ودمعها.
لقد آثر علوان، بدلاً من ان يهجر النبع، أو يردمه بالحجارة، أو يلعنه، أو يطلق عليه الرصاص كما تفعل شريحة، أو أن يستنفده كما تفعل شريحة أخرى.. آثر أن يثريه، وأن يضخ مفردات الحياة ومكابداتها، ومكتسبات الابداع وتشعباته في متنه، وحواشيه.
ثم هو لم يسوّره، ولم يبن سداً على مجراه، بل تركه هكذا، كما كان، كما سيكون.
وعندما آخى صديق الشعر والشعراء، في قراءات الليل، سعدي ودرويش والسياب وأمل، لم يغلق الديوان دون شحاتة والعواد وسرحان والعودة والثبيتي والصيخان، والبردوني والمقالح، وحداد والهاشمي والشرقاوي وخليفة..
ولما صدحت في فضاءات صمته روائع فيروز وزياد ونصري ومارسيل وإمام، لم تتعطل حناجر السندي وفوزي وطلال وبلفقيه والمرشدي والآنسي وطارش.
وفي النهل، والاصدار، حافظ علوان على تميزه وتفرده وحافظت القصة لديه على القصة القصة: لها عينان وشفتان، ويدان تتكلمان. ومنابع للذاكرة، ومقاصد للجريان، وملامح لا يخطئها محترفو الابداع، ومتلقوه، كما حافظ هو على منزلةٍ، خاصة في قلوب المتدافعين على بوابات الأدب الرفيع.
زرته في مكتبه، والشمس قد ودعت للتو الرياض، ومكاتب جريدة الرياض، في يومٍ سأظل أذكره من أيام 83. في يدي مجموعتي الأولى الصغيرة البريئة «بين الصمت والجنون» وفي عيني ترقب، وتخوف، وأكثر من سؤال، وخرجت من عنده، وفي يدي مجموعة من اللآلئ، وصديق نادر في الرجال، ونادر في الإبداع، في فهم وتذوق الإبداع.
لقد مثَّل لي علوان، كما صديقه الأقرب، ورفيق دربه، الغائب الحاضر المبدع عبدالكريم العودة نموذجاً لم يتغير مع الأيام، وصورة لم تهتز، ومرآة لم تنكسر.
فلم أصدم يوماً بهما، وما زلت أنظر إليهما بإكبار وإجلال، كما فعلت أول مرة وقعت عيني على أحرفهما المضيئة، ووجهيهما الوضَّاءين.
ومما يحفظ في كتاب الجمال لعلوان، أنه عندما أمسك بمفاتيح الإبداع، ومفاتيح الحياة، واكتسى بضيائها، لم يلق بها في الرمل، وإنما أحالها لأصدقائه، وللطارقين من مفارق الوطن.
كما أنه عندما انكفأ كثير من المبداعين على ذواتهم، وأناهم، ومصالحهم الضيِّقة، جعل من نفسه جسراً لخدمة المثقفين في علاقتهم مع وزارة الإعلام، وعبر كل المواقع التي آنسها بخلقه، وأوله التواضع والبساطة، والبسمة التي لا تغادر، والكلمة المرحة التي تستقر في القلب والذاكرة.
واليوم، عندما يطرق بابنا، ويتطلع الأهل من المشرق والمغرب، والشمال والجنوب إلى واجهاتنا، سيجدون في علوان، وأصدقائه القلة الكثر، نموذجاً يضيء لأسئلتهم، ويدل على ثقافتنا، وناسنا، وحياتنا، فهنيئاً لنا به، وبهم.
وهنيئا للتوق الأول، والشوق الأول: الوطن الأبهى والأجمل.
|