قبل أيام ودعنا مهرجان الجنادرية بالرياض لنستقبل معرض الكتاب، أو بالأحرى «مهرجان» الكتاب بالقاهرة ومعه مهرجان القرين بالكويت وأثناء ذلك كان معرض الشارقة للكتاب يجتذب الكثير من المتابعين الذين يتطلعون إلى مهرجان ثقافي آخر في قطر، لتستمر تلك المناسبات الثقافية الضخمة بما يتخللها من ندوات ومؤتمرات ومحاضرات في لبنان والبحرين والمغرب وغيرها، مانحة المشهد الثقافي العربي تلويناً يبعث على البهجة والتفاؤل أو على الأقل ذلك ما يبدو على السطح.
من الصعب على منغمس مثلي في هذا المشهد ان يقومه حق تقويمه، لكن ليس من الصعب عليه، مثلما على غيره، ان يبلور بعض الرؤى الأولية حول قيمة هذا النشاط؛ لأن عملية الفرز والتقويم ضرورية لاستمرار النشاط من ناحية، ولتطوره وهذا هو الأهم، من ناحية أخرى. فلاشك أننا إزاء خضم من الحركة يرتفع بعضه إلى مصاف الإنجاز ويتدنى البعض الآخر إلى مصاف الجعجعة التي تخلو من الطحن.
في دبي كنت في أوائل هذا الشهر أحضر ندوة أقامتها مؤسسة سلطان العويس الثقافية بمناسبة افتتاح مبنى المؤسسة، لأجدني في القاهرة بعد ذلك مشاركاً في ندوة وملقيا لمحاضرة. وكانت الإمارات أثناء الندوة تشهد معرض كتاب الشارقة، حيث كان المشاركون من دور النشر تتهيأ للمناسبة الأكبر متمثلة في معرض القاهرة الأكبر حجماً. وقبل دبي كنا في الرياض نحتفل بالجنادرية مهرجاناً فولكلورياً وسلسلة من الندوات والأمسيات ومقالتي هذه تنصب على هذا المهرجان الهام في حياتنا الثقافية وقد يصحح البعض عبارتي لتصير: «الذي كان هاماً في حياتنا الثقافية»!
الندوة التي عقدت في دبي كانت صغيرة الحجم، لكنها جمعت طاقات وقدرات علمية وثقافية بارزة في عالمنا العربي، بغض النظر عن مدى الاتفاق أو الاختلاف معها: محمد جابر الأنصاري، جابر عصفور، أدونيس، أحمد عبدالمعطي حجازي، ابراهيم نصر الله، ابراهيم غلوم، ناصيف ناصر، وغيرهم. وكانت الندوة مركزة تمتعت بالكثير من الحيوية والحرية في النقاش والجدية في الطرح، على تفاوت كبير في مستويات ذلك الطرح بطبيعة الحال بما يعكس وضع الثقافة العربية ككل، تماماً كما لو كانت ترمومتراً لتلك الثقافة.
أما القاهرة فكان معرضها كما أشرت «مهرجاناً» من نوع لا نكاد نعرفه في غير مصر: يختلط الكتاب بالأغنية، وندوة المفكرين بندوة الممثلين، وتتنافس في فضائه أصوات الباعة مع أصوات المحاضرين، باعة أشرطة الكاسيت الإسلامي إلى جانب باعة الأغاني إلى جانب باعة الشعر العامي إلى جانب الحوار الجاد حول كتاب حديث صادر. وفي هذه الأثناء كانت ملايين العناوين، كما قيل، تملأ أكشاك الناشرين، ولعلها «أقفاص» الناشرين، فالمبيعات لم تكن بالمستوى المأمول، كما قال لي خالد المعالي من دار الجمل بألمانيا، وهي من دور النشر المتعالية السمعة في المغترب العربي. هذا مع أن نوع الكتب المباعة وليس كمها هو المهم، لكن يبدو أنه كان هناك هبوط في سوق الكتاب بشكل عام لصالح أشكال تعبيرية أخرى مثل الأشرطة وبرامج الحاسب التي توصل ثقافة سمعية أو سمعية بصرية أقل إرهاقاً في التعامل.
ومن طرائف المعرض المضحكة المبكية في آن مسألة منع الكتب، حيث طال المنع كما علمت كتباً فائزة بجوائز في المعرض نفسه، كما في كتاب للروائي والناقد المصري المعروف إدوار الخراط.
تدلف بنا هذه الهموم إلى مهرجاننا العزيز، لينهض سؤال الرياض بين المدن: كيف نقيم ذلك المهرجان بين غيره؟ حسن المصطفى، مراسل صحيفة «الحياة» في الرياض نشر يوم الجمعة الماضي في تلك الصحيفة مقالة حول المهرجان تحت عنوان: «لماذا لا يثيرمهرجان الجنادرية حماسة المثقفين السعوديين»؟ ومع أن المقالة تركت الكثير من الأسئلة معلقاً فإن وجهة النظر تستحق الوقوف وتستحث القائمين على برامج المهرجان أن يعيدوا النظر في ما باتوا يطرحونه في الأعوام الأخيرة، فأصوات النقد أخذت فيما يبدو تتحول إلى احتجاج صامت ومقاطعة، وليس هذا مما يرتضيه القائمون وفقهم الله بما عرف عنهم من حرص واجتهاد.
الذين عرفوا المهرجان في سنوات مضت، أي في بداياته، هم الأكثر أسى على ما آل إليه، ففي وقت من الأوقات كان أبرز مفكري العالم العربي ومبدعيه يملؤون ردهات المهرجان ويثرون فكره: محمد عابد الجابري، أحمد حجازي، الطيب صالح، علي حرب، ابراهيم أصلان، جمال الغيطاني، إلى غيرهم وكانت القضايا أكثر حيوية وأهمية، بل إن من السنوات الأخيرة ما شهد حضوراً عالمياً بارزاً لكنه سرعان ما تيتم بالانصراف إلى ما هو سهل ومأمون من الأسماء والطروحات، بل إنه بات من الحتمي كل عام ان نرى أسماء بعينها ممن يقدمون عطاء تقليدياً مملاً يأخذ السمة التكسبية في كثير من الأحيان. وأذكر أنني أدرت قبل عامين أو ثلاثة أمسية شعرية اتسمت بالطرح العادي ولم ينقذها مما هي فيه إلا حضور الشاعر حسن السبع من الدمام حين جاء على عجل ليملأ الفراغ الذي تركه الغياب أو لعله الهروب المفاجئ للشاعر العماني المعروف سيف الرحبي.
إني أعلم ان مهرجان هذا العام والذي قبله بل وفي معظم الأعوام حظي بمشاركات مميزة، لكنها باتت معزولة ومن الضآلة في العدد بحيث لا يحس بها في ظل هذا الكم الطاغي من التناول العادي وفنون القول المتواضعة، فقد طغى معيار الجماهيرية على المعايير الأخرى كما يبدو، وصار الشاعر الجماهيري سيد الساحة، فكان لا بد للمواهب الحقيقية أن تنسحب أو تحضر مجاملة لمن وجه لها الدعوة.
ومما يزيد الحزن، حين نقارن مهرجان الجنادرية بغيره في القاهرة أو الكويت أو غيرهما، هو طبيعة المشاركة النسائية ومستواها. فعلى ذلك المستوى يمكن أن نرصد عادية الطرح أيضاً وغياب - أو شبه غياب - الأسماء الفاعلة ثقافياً في ساحتنا. كما ان العزل التام لذلك النشاط عن غيره يعد إفقاراً لكليهما. ولعلي لا أغضب الأخوات المثقفات لو قلت إن الطرح النسائي أشد معاناة بعزلته عما يطرحه الجانب الآخر، فحتى لو ارتفع مستوى الطرح النسائي في الجنادرية، وهو حالياً متواضع، فإنه يظل بحاجة ماسة للتفاعل الإيجابي مع الطروحات في الجانب الرجالي، ربما أكثر من حاجة الجانب الأخير إلى الأول، هذا مع الحفاظ على قيمنا الإسلامية التي نراعيها في مختلف أوجه حياتنا اليومية دون ان تكون عائقاً في وجه استمرارية تلك الحياة، وهو مايزيد من حدة السؤال الموجه لا إلى واضعي برامج الجنادرية وحدهم ولكن إلى مجتمعنا ككل حول هذه العزلة الثقافية المخيمة والتي تتناقض مع بعض أوجه حياتنا اليومية هل ينبغي للأسواق وغيرها من المرافق أن تختلف عن منتدياتنا الثقافية؟أعلم أن القائمين على مهرجان الجنادرية حريصون أشد الحرص على آراء المثقفين، وأنهم لذلك يدعون إلى لقاء مشورة يتم فيه تبادل الرأي حول القضايا والأسماء لكل عام، وكنت أحد من تشرفوا بتلقي الدعوة إلى ذلك اللقاء، لكن الملاحظ هو شكوى بعض المسؤولين من قلة الحضور في الفترة الأخيرة، وهو ما يثير السؤال حول السبب وراء ذلك. ألا يمكن أن يكون نوعا من الاحباط حيال ما يقدم من مقترحات وشعور البعض من ثم بعدم جدوى تلك اللقاءات؟ لا أدري، لكن المؤكد هو ان هناك حرصاً مشكوراً لاستطلاع الرأي، وهو ما يشجع على اقتراح أن يعقد لقاء يكون هدفه تقويم المهرجان على المستوى الفكري في السنوات الأخيرة، أي أن تكون المشورة لا حول المهرجان القادم ولكن أيضا حول الفائت والذي قبله حتى نصل إلى صياغة مهرجان نباهي به غيرنا ونقدم من خلاله صورة لا نتردد في ذكرها حين تذكر المهرجانات الأخرى، لاسيما أن حياتنا الثقافية ليست غنية بالنشاط الثقافي الذي يفتح أفق البلاد على غيرها من البلاد في أنحاء العالم المختلفة، حتى بات المثقف السعودي ينتظر المناسبات الخارجية ليقدم أفضل ما لديه.
|