قبل الولوج الى عالم هذا النص، فلابد من الإشارة الى ان كتابة الصديق يحيى سبعي من الشباب النابه، وصاحب ثقافة فنية معرفية عالية، ازعم بأني من أول من اطلع على نصوص هذه المجموعة وبين يدي المسودات الاولى لها.
العزف على عذابات الغربة والسفر، تيمة متكررة في النص السردي المحلي، بدءا من النصوص الاولى الى الآن، وكأنها لزمة ممتدة مع كل الأجيال، اما كيف عالج الكاتب تلك الحالة، وذلك الوجع فهو ما يجب الاشارة اليه، وقد صافحنا منذ النص الاول لهذه المجموعة، «عائد الى الوطن الصغير»، المشكل لعالم القاص من حقيبة سفر وبقرة، وشجرة، وجدار طيني صغير نابت في السهل التهامي الجنوبي، وشخوصه هم، ام فقيرة لطفلين، الاول اوغل في النسيان والمدينة، الآخر في ذات الاتجاه: «وتسمعني آراءها باكية يا بني.. الجهة شمالا، فاذا جفت الأرض السيل، سيعاودك الشوق والحنين.. رجائي عد بأدراجك جنوبا نحو الأرض وجواري» ام رفضت الزواج من مغرم قديم، وأب مجنون عاشق في قرية بعيدة، او مات، فالأمر سيان، المهم انه لن يعود، وذاكرة لشيخ هو الجد، يردد ذات الحكمة ما يموت إلا اللبيب لا في معركة الحياة الرجال هم الذين يموتون، ألا الذين يحيون» ص6.
ويبتدي التقطيع الزمني الذي يضعه الكاتب كفاتحة للجمل: «أمس - قبل سنوات - الصيف - قبيل السفر - قديما - الآن - اليوم - صباحا - الطفولة - بعيد الغروب - في هذه اللحظة - غدا»، بلغة شعرية مترعة بالحزن، ولتكن الهجرة المقررة الى الشمال، وكأنها التيمة التي لابد منها في نسيج الإبداع العربي، نلمح ذلك في نصوص عربية كثيرة، وكذلك على الصعيد المحلي وأذكر ان اول نص قصصي كتبته، أسميته «مسافر» وجاء في المجموعة الاولى «البديل»، وكنت في القرية من قبل، اردد الشعر واغني به كغيري من الناس.
هكذا تتحول الأشياء وتتبدل، وتتخلق في الغربة اشياء جديدة لا نعرف كنهها، وهناك في السرد المحلي تجربة مهمة، مكتوبة في الاغتراب هي تجربة: «خطوات على جبال اليمن»، د. سلطان القحطاني، تتجاوز دلالة ان الجنوب رمز للجوع.
ومن الظلم ان أقف في قراءة نص المخش» عند هذه الدلالة والحد.. دون الاشارة الى البراعة الفنية، والكاتب يوهمنا بالحضور الطاغي، لظرفي الزمان والمكان في عنوان بارز دلالة على الرحيل «المطار 30 كلم» خارج القرية، وليخفي صورة الصراع الحقيقية الحياة والموت المتمثل في صورة معلقة في الليل تحت الفانوس وترقد في النهار تحت الفراش مجسدة حالة الفراق الموت والتلاشي، وحقيبة حزينة علي صاحبها «الاول»، فيها أقلامه الخشبية وكراسه الجميل، ولأن الرحيل كالموت احدى فلسفات الام وليست الشجرة، على حد قول بطل النص ولا حظوا مفردة «أدبرت»، وقد جعلها الكاتب مفتتح خطابه ورحيله.
ويقابله خطاب ليلى المبتسر، الشخصية التي لم تظهر من بعد في هذه الجملة المعبرة: «مواعيد الليل مخيفة وكذا لقاءنا»، وهي مواعيد ما بعد الغروب، في الليل على ضوء الفانوس الخافت، المضيء في العريش صورة معلقة، بعد أن دفعت الام «ثمن البقرة» لشد الرحال.
صورة تتكرر بعد ذلك، فعلى ضوء ذات الفانوس السحري، تحسب الأم قيمة كيس الذرة الذي ستشتريه غدا، وغدا تسطر خطوات كبيرة في الأرض.
وقد يسأل أحدكم، أين السرد في هذا النص..؟
واريد ان اعود بالذاكرة الى بعض النصوص التي لها ذات الرؤية في المشهد السردي، ومنها رواية «الحزام» احمد ابو دهمان ومجموعة «اخر ما جاء في التأويل القروي»، د. حسن النعمي، و«الرحيل» لحسين علي حسين، وكثير من نتاج المبدع الراحل عبد العزيز مشري، وكذلك عبده خال، ويلمح ان هناك تماسا شديد الوضوح بين نصي يحيى وعبده، لا يقلل من قيمة هذا النص، لكونه الاحدث كتابة وتجربة، ونعرف في السرد العربي تجارب كثيرة، اخذت بذات الرؤية ومنها رواية «موسم الهجرة الى الشمال» و«عصفور من الشرق» ورواية «تحريك القلب» لعبده جبير، ولكل نص ايضا من تلك النصوص خصوصيته، وفي نص «المخش»، ندرك ان الكاتب يعي تماما دوره ورسالته، وقد شرع منذ النص الاول رسم عالمه الفني، وحدد خطابه في نسيج قصصي، وبنفس سردي روائي، دون ان يسقط في فخاخ التنظير، وطموح التجاوز وغيرها من اوهام الكتابة المصاحبة للبدايات، وسهلت اللمسة الجميلة للتشطير الزمني، سهولة التنقل بحرية بين الأزمنة «قبل سنوات - في هذه اللحظة - غدا»، بدلا من الأفعال المعروفة «ماضي - مضارع - مستقبل»، ومفردات مثل كان ويحدث.
وتجديد يحيى سبعي، طال الفانوس قبل الاوان، وليسرح «الرمز» السحري على يد «الخفس» الغرباء، لضرورة لابد أن يفرضها خطاب النص، وهم لن يأتوا بالضوء.
لم يفرح اهل قرية الحسيني، ويتناولوا لحم «تيس العداد»، ولم يأت الضوء من الشمال، بل جاء من الجار «أبو نورة»، وتلك المفارقة ان يسمي الرجل نفسه بهذا الاسم، عله يلجم الحديث عن وحدته الممتدة منذ اربعين عاما، وآمال يسعى بها في حياته، ولولا حالة الجنس الفاضحة في هذا النص، لكان الحديث ممتدا وطويلا حوله.
وتطاردها لغة الرحيل والسفر والاغتراب والجوع، وتكرر في نص «أحدب يبحث عن مكان»، إنه سيأتي اليوم الذي اشد رحالي فيه الى ذلك المكان»، الهجرة الى الشمال، الحلم الذي يسم شخوص نص يحيى سبعي، ولا يضيء لها الفانوس السحري نهاية الطريق، ولا يبقي لها غير ذكرى رصيف الحياة، قبل ان تقتلها المدينة ويداهمها الموت.
وينحاز المؤلف الى شرائح محددة، ليكونوا شهود نصه في معابر الفقر والجوع والفاقة، وهم يعيدون عن القرية، وقد تحولت الصورة الى مذكرات زرقاء الحلم، سوداء النهاية في حي «العود»، في قصة «عقب سيجارة»، ويظهر التقطيع الزمني واشارة الى تاريخ 23/؟/1992م واليوم الذي يليه 24/؟/1992م دلالة على تنامي الزمن في البداية، وتكريس اللغة والمسرح والرؤية والبناء والرمز، الفانوس السحري بأكثر من صورة، وليأت موازيا لصورتي الصراع بين حالات الحياة والموت، وليذكرنا مرسخا تاريخ حالات الجوع، وأقل الاماني «الخبز» في نص آخر «الهجرة إلى السماء»، والمعنى الهجرة المعاكسة الى قرية الحسيني، والقنوط الممتد في السهل الجنوبي التهامي، «قرية الحسيني خاوية، والنهار يتقهقر.. التنور دفنته العاصفة الرملية، بعدها ركزوا عودا في وسطه.. فأمسى - العود - كالفنار - علهم يستدلون عليه في ظلام الليل والتعب على مكان التنور..» ص 52، ولتأت الاشارة الذكية إلى ظرفي الزمان والمكان بين قوسين، معا في مفردة واحدة «العود»، ضوء الفانوس وضوء جديد، يقف تحته الجندي المجهول في نص «آخر المواقف البطولية»، ليمثل حالة الليل العربي المستديم، وجندي يريد ان ينتقم المخش وجراح بطنه، ولسنوات العمر الضائعة جنديا في خدمة السيد: «كل العظماء وقواد التاريخ عسكريين وسياسيين ومفكرين، ألم يطالب كل هؤلاء، ولو سرا بأن يموتوا شرفاء».. ص 64.
ويدلل تاريخ كتابة النصوص في نهاية كل نص ان «موجز قصصية لأمهات قرويات» و«ويوميات محمومة» واخيرا «الرحيل داخل نصوص قصيرة جدا» متتالية، وهي نصوص تعطي فرصة، لإعادة رؤية النص وقراءته من جديد قراءة عميقة، ففيها النضج وحرفية عالية، توزعت بين السرد والشعر، كلام كثير يمكن ان يقال عن هذه المجموعة، وقد نصبت يحيى محاميا عن الفقراء والمطحونين، لا يتسع المجال هنا لمتابعة الحديث حولها، وحول المجموعة ككل لها وما عليها، وقد يتم ذلك في مكان ثان «دعوة لغد»، كما يعدنا بطل النص المتحول من مجرد صورة الى جندي مجهول، فموجز سبع امهات قرويات، سيرة كما يفعل الجنود في رسائلهم الى ذويهم يخط سيرة الجوع الاول «جندي مكافح على كل الأصعدة» ص 73 والثاني «الابن في الشمال مناي، مناي ان يسعد بصغار وزوجه المتجهمة.. بالامس قال لي موظف الهاتف، ان الرقم الذي يطلبه من اجلي ليس كاملا.. سألت وجهه الساذج، الا يمكن ان تكمله من عندك؟ تبسم، فغادرت للادراج حزينة، هل وهبني ابني رقم هاتفه ناقصا..؟.. وان كان كذلك، الا يمكن لأولئك ان يضيفوا اليه الارقام ناقصة، كنت سأطير جذلانة فرحة اذا ما همس من بعيد امي» ص 86 هذه الزفرة لأم ليست من قرية الحسيني وحدها، فلم تعد الوطن الصغير، بل امتد الحب والجوع في السهل التهامي، ليضم صبيا والعريش في عناق آخر، وتمنيت ان يسقط الزميل والصديق يحيى، ويطرز نصه ببعض من اساطير قصص الحب المشهورة في هذا السهل بين القرى، ولينهض بهذا الحمل، للحاجة الى مثل وعيه وحساسيته وقد نضجت دربته الكتابية.
شيء لابد من الإشارة اليه وهي لوحة الفنان المعبرة التي تستحق قراءة وحدها، للزميل الشاعر والروائي الصديق عادل الحوشان، واخيرا علي الحسيني السلام!.
|