يبدو أن الحرب تغير أمزجة رؤساء تحرير الصحف العربية كما تغير أمزجة غيرهم من المواطنين ووحده الكاتب على ما يبدو عليه أن يتحلى بحاسة سابعة ليعرف ما يكتب أو ما لا يكتب أو بالأحرى ما يروق رؤساء التحرير أو ما يثير حساسيتهم في مثل هذه الأوقات العصيبة أو ما قد يخالف التعليمات التي يتلقون . فهم من ناحية يحبون أن تتزين صحفهم بتحليلات عن موضوع الساعة إلا أنهم يفضلون الالتجاء إلى تحليلات منقولة عن صحف أجنبية تجنب رؤوسهم أو بالأحرى رئاساتهم الاحتكاك بسقف غالباً ما يعملون هم أنفسهم على خفضه إلى ما تحت شحمة الأذن دون أن يدفعهم إلى ذلك أحد طلباً للسلامة كما هي في عرفهم. أما بالنسبة لأي اجتهادات قد يجترحها الكاتب في طرح قضايا مجتمعية فالأمر ليس بأحسن حالا إذ يلاحق الحس الرقابي العالي لدى بعض رؤساء التحرير وكأنهم موظفون لدى إدارة رقابة المطبوعات في هذه أو تلك من وزارات الإعلام العربية أي كتابة تريد أن تطرح أو تناقش أي قضية موضوعية وطنية أو حتى أسرية قد تكون قتلتها المنتديات الإلكترونية والصحف الخارجية بحثاً.
وإذا كنت شخصياً لا أشكك في سلامة وطيب نوايا كثير من رؤساء تحرير الصحف العربية في بعض إجراءاتهم الاحترازية ضد الكتابة التحليلية بشكل عام وضد الكتابة النقدية بشكل خاص فإنني أشك جدا في سلامة مثل هذه الإجراءات التي لا ينتج عنها في الغالب إلا تشكيك القارئ في مصداقية الصحف العربية وفي مدى جديتها وقدرتها ليس فقط في التعبير عن همومه بل وأيضا في قدرتها على تقديم أي إضاءة موضوعية لما يجري.
وقد حاولت رغم بعدي الميداني عن الوسط الصحفي تقصي أسباب انصراف عدد من الصحف العربية عن تناول القضايا الوطنية وعدد من قضايا الساعة بالتحليل والنقد الموضوعي خاصة في هذه المرحلة التي تتمتع بتسامح سياسي خاصة والحمد لله في وطننا العربي فوجدت أن بعض ذلك إذا تجاوزنا الحسابات الذاتية لبعض رؤساء التحرير يعود الى عدة تبريرات غير موضوعية. منها مثلا، ما يذهب إليه بعض رؤساء التحرير من القول ان استبعادهم للكتابة النقدية أو التحليلية وان كانت موضوعية يعدو الى الحرص على صورة هذه الدولة أو تلك في عيون الإعلام الخارجي فيجري تجنب نشر أي طروحات نقدية أو تحليلية إلا أن مثل هذا الاجتهاد غير المصيب ينسى أو يتناسى ان الإعلام الخارجي لا يحمل خلو الصحف من النقد أو التحليل الموضوعي محملا حميداً باعتباره مؤشراً على «أن كل شيء على ما يرام» بل ان هذا الإعلام الخارجي يأخذ مثل هذا الموقف على انه مؤشر على غياب حرية الرأي والحجر على النقد الموضوعي وغياب الكتاب القادرين على القيام بهذه المهمة. وفي رأيي ان هذا هو الإيذاء الحقيقي والأكثر إحراجاً وجرحاً للدولة والوطن معا.
كما أن الوجه الآخر قد لا يكون مأموناً من جراء تجنب الصحف للطروحات النقدية هو أن عدم العلن في الحوار والنقاش على صفحات الصحف لن يصرف الناس عن التفكير فيها وأخشى ما يخشى أن يأتي يوم تجد فيه الصحف نفسها إذا لم يجد المجتمع نفسه ككل يعيش في عالمين منفصلين العالم الإلكتروني بفضاءاته غير المحدودة وبزخمه الشبابي وبطروحاته الجريئة والعالم المقابل الإلكتروني إن صح التعبير بصحفه البائتة وكولاجها من الصحف الأجنبية وبرقابتها الصارمة التي أصبحت تزعج المسؤولين بقدر ما تحرجهم. وهنا يجدر التنويه أن رئيس التحرير لو وصل إلى هذا الجزء من المقال دون أن يكتب عليه غير صالح للنشر فهذا يعني أن جريدة الجزيرة ورئيس تحريرها ليس ممن يعنيهم هذا النقد ليس كل الوقت على أقل تقدير.
على أني أود التوضيح بأنني أكتب هذا الكلام بمناسبتين إحداهما عربية عامة والأخرى محلية خالصة وهما:
المناسبة الأولى: هي هذه اللحظة التاريخية الحارقة التي يعيشها الوطن العربي من ملحه الأجاج على ساحل المحيط إلى جرحه المتأجج على شاطئ الخليج. فرغم فداحة العدوان الأمريكي البريطاني على شعب العراق والتي لا تتحرج صحف البلاد المعتدية نفسها عن تسميته باسمه العدواني الصريح فان عدداً كبيراً من الصحف العربية تستحي على ما يبدو من هذه التسمية وتسمي تقتيل المدنيين وهدم بيوتهم وقطع رؤوس الأطفال في فراش نومهم باسم «الحرب». مع أن ما يجري على أرض الواقع من جنوب العراق إلى شمالها ليس بحرب لا بالمفهوم الأخلاقي ولا بالمفهوم المصطلحي للكلمة. انه عدوان سافر عضود بالمعنى التقليدي والحديث لمصطلح العدوان. انه عدوان كالعدوان الاسرائيلي اليومي على الشعب الفلسطيني.
وللأسف فبالمقياس نفسه مقياس تجنب التحليل والنقد وان كان موضوعياً في الصحف العربية بعمومها، تحسباً أو توجساً من رؤساء التحرير يصار إلى تجنب الإشارة إلى بسالة الشعب العراقي في مقاومة العدوان الأمريكي. وهذا التجنب الذي لا يخلو من جبن يكون إما خوفاً من تهمة أن يفهم تثمين الموقف الشجاع للشعب العراقي على انه تقدير للنظام مع أن من الواضح ان الفرح الشعبي في الوطن العربي كله بمقاومة الشعب العراقي لا يعطي بأي حال من الأحوال صك غفران لجرائم النظام الحاكم في العراق، أو خشية من هيبة الخيبات في حال عدم صمود المقاومة أمام جبروت تكنولوجيا الموت الأمريكية التي تصب في الليلة الواحدة أكثر من ألف صاروخ على مدن وقرى العراق. وفي كلتا الحالتين يتصبح القارئ بصحف قص الرقيب أجنحتها وأطفأ في حبرها أي بارقة من أمل بقدرة الشعب العراقي على اعتراض العدوان أو جعله أقل يسراً وتسلية للمعتدي. هذا عدا .. و هنا بعض من بيت القصيد في هذا المقال عن غياب أي تحليلات يعتد بها سواء في المتابعة اليومية لمسار العدوان الأمريكي على أرض الواقع وتفاقماته القريبة أو على مستوى البعد الاستراتيجي للظرف التاريخي الذي يجعل الوطن العربي يستهل القرن الواحد والعشرين بنفس كارثة الاحتلال والتقسيم الذي أكل وجهه وكرامته الوطنية وثرواته بداية القرن الماضي. هذا الغياب قد يعود في جزء كبير منه إما للقصقصة التي تتعرض لها كثير من الكتابات التحليلية بأيدي رؤساء التحرير أو للمواد الذي يقترف في حقها بأيدي الكتاب أنفسهم فتأتي كتابة مفككة مرتبكة الا فيما قل وندر.
وما لا يمكن التغاضي عن ذكره في هذا السياق هو ميل عدد من رؤساء التحرير الأعمى لأخذ «مانشتيت» الصحف التي تكتب بالبنط العريض على الصفحة الأولى من وكالات الأنباء كخبر لا يقبل الاحتمال بعدم الصحة. فبينما تكتب الصحف الأجنبية على سبيل المثال «تضارب الأنباء» عن سقوط كذا أو عن إنفاذ هذا أو ذاك من خطط العدوان فإن الصحف العربية دون استثناء تقريباً تغفل كلمة «تضارب الأنباء» وتكتب مباشرة الخبر وكأنها لم تكن في مكاتبها الوثيرة أو الرثة أبعد ما تكون عن ساحة الحدث وكان الأحرى بها أن لا تورد الأخبار وكأنها نصوص منزلة.
المناسبة الثانية، التي تستدعي هذه الكتابة التي أدعو الله أن تكون خفيفة على رئيس التحرير هي مناسبة محلية داخلية كما أسلفت. وهي مناسبة أخشى لو تأخرت أكثر مما تأخرت في ذكرها أن يفوت فيها الفوت ولا ينفع عندها الصوت. تلك هي المتمثلة في القرار العزيز بإنشاء هيئة للصحفيين السعوديين.
وهنا سأقوم بتلخيص قد يكون مخلا بعض التوقعات الواقعية التي يأملها المعنيون من وجود هذه الهيئة:
مهنة العمل الصحفي. أي الخروج به من دائرة «الهواية» التي جرت العادة على تعريفه ضمنها كما يجري في أحيان كثيرة تعريف المنتمين إليه كهواة عابرين خصوصاً عندما يتعلق الأمر بعمل المرأة في الصحافة. ويكون هذا الاعتراف بالعمل الصحفي كمهنة وبالعاملين في السلك الصحفي نساء ورجالاً كمنتمين إلى مهنة محترمة لها التزاماتها الشاقة ولها حقوقها المعنوية والمالية بحيث تكون قادرة على «تأكيل» أصحابها «عيش حلال» ولا تتركهم للفتات أو لخيار سلبي هو خيار الاستعطاء بها لا سمح الله..
لا بد في هذا من العمل وبمشاركة قطاع عريض نساء ورجالاً ممن يملكون خبرة صحفية في شتى المواقع وليس فقط في المواقع الرئاسية من المشاركة في وضع لوائح العمل لهذه الهيئة.
بنفس مواصفات المشاركة لا بد من صياغة ضوابط الحقوق والواجبات للعاملين في هذه المهنة ما لهم وما عليهم والتي لا تتيح لرؤساء التحرير أو سواهم التوقيف عن الكتابة أو النشر أو العمل ما لم يكن الأمر على بينة مهنية مع وجود مرجعيات قانونية لكلا الطرفين.
تقنين الضمانات الوظيفية والأجور لحاضر الصحفي في شبابه ولمستقبله في شيخوخته. خاصة في ظل غياب أي مقاييس مهنية لأجر العمل الصحفي وخاصة تلك المشاركة النسائية التي لا ترتبط بمقر صحفي معترف به أو بدوام محدد حيث غالبا ما يترك تقدير الأجر لأريحية رؤساء التحرير ومن في حكمهم وقد لا تكون بما يفي العامل حقه.
إقرار حصص مقننة للعاملين بالصحافة يجري الاتفاق في الهيئة على كيفها وكمها من الأرباح السنوية للمطبوعة.
خلق بيئة للتدريب ولورش العمل لتطوير العمل والعاملين في هذا المجال من الجنسين ومن الفئات العمرية المختلفة بالداخل والخارج..
خلق بيئة للتكافل والتكامل المهني بين العاملين في هذا المجال وربطهم أو على الأقل إقامة علاقات عمل ودية وتبادلية للخبرات مع الهيئات المماثلة في الداخل والخارج.
أن يكون للهيئة مجلس منتخب على أن توضع شروط غير تعجيزية ولا ترتبط بالقدرة المالية للترشيح من العاملين في هذا المجال المهني «نساء ورجالاً».
يبقى أن هذه التوقعات التي يشاركني فيها وفيما هو أكثر منها عدد كبير من العاملين في الصحافة تفترض أن مشاركة المرأة فيها ستكون مشاركة فعالة بحجم مشاركتها المتزايدة في العمل الصحفي وليس مجرد مشاركة ملحقة أو مبتسرة أو عضوية مؤازرة.
هذه التوقعات أيضا تفترض أن تتاح العضوية بما فيها حق الترشيح والانتخاب في هذه الهيئة لأولئك الكتاب والكاتبات الذين يكتبون في الصحف وان لم تتمحور مشاركتهم في العمل الصحفي المحض بل شملت أو اقتصرت على الكتابة والتحليل أو المتابعة للشأن والشجن العام اجتماعياً أو سياسياً أو سواهما.
هذا ولله الأمر من قبل ومن بعد.
|