الخطاب السياسي لغته ومحتواه مرتبطة ببيئته وبالأحداث السياسية المحيطة به، فتلك الأحداث هي مصادر الخطاب ومنطلقاته، وعلى ضوء توجهاتها تأتي صياغته وأسلوبه. راصد الأحداث ومحللها يلحظ كثرة الخطابات السياسية وتسارعها انطلاقاً من تسارع وتيرة الأحداث السياسية في الآونة الأخيرة. والصفة المشتركة لغالبية الخطابات الصادرة مؤخراً هو تناقضها وتضاربها، فأصدقاء خطاب اليوم يصبحون أعداء في خطاب الغد، والالتزامات والتعهدات التي يؤكد الالتزام بها، يتم نقضها في وقت لاحق والتأكيد على عدم أهميتها، والمبادئ والقيم التي يعلن الالتزام بها اليوم قد يتم تجاهلها أو التحول عنها في الغد، والعامل المسبب لهذه التغيرات والمتحكم فيها هو القيمة النفعية والمصلحة المتغيرة مع عدم ثبات الأحوال وتقلبها وعدم وضوحها. وفي المقابل هناك مجموعة من الخطابات التعبيرية والتصريحات السياسية اتخذت خطا واحداً والتزمت به بغض النظر عن تغير المصالح وتقلبها. والخطاب السعودي هو أحد هذه الخطابات التي التزمت طريقاً بعينه بناء على أهداف محددة وقيم بعينها فلم يتغير أسلوبه ولم يتبدل نهجه وبقي ملتزماً بمنهج القيم التي اتخذها واعتمدها هادياً ودليلاً.
مقال اليوم يلقي الضوء على الخطاب السياسي الصادر عن المملكة العربية السعودية محاولاً تحليل العناصر المميزة لشخصية الخطاب السعودي ممثلاً له من الخطاب الأخير الذي ألقاه صاحب السمو الملكي الأمير عبد الله بن عبد العزيز على الشعب السعودي.
من المهم أن ندرك حساسية الموقف الدولي والظروف المحيطة والأحداث المتقلبة، مما أدى إلى تباين المواقف وتغيرها وتناقضها وحتّم اتخاذ مواقف بعينها أو التنازل عن أفكار محددة، أو التزامات سابقة، الأمر الذي يقود الى جعل بعض المواقف المتخذة تقع على أطراف المعادلة، فإما مواقف ملتزمة الرفض الى أقصى درجات التطرف أو أنها تأخذ الجهة المقابلة وتسير في الركب ،معه حيث يسير بدون قدرة على تغيير وجهة مسيره . لكن الخطاب السعودي كعادته دائماً استشعر أهمية الالتزام بحكمة تمثّل شعرة معاوية فلا إفراط ولا تفريط ولذلك جاءت لغة التوازن سمة بارزة يتسم بها الخطاب السعودي ومن ورائه يأتي الموقف السياسي للمملكة.
الخطاب السعودي خطاب متوازن يستخدم لغة متوازنة عقلانية تحسب حساب الظروف وتضع الأشياء في مواقعها الصحيحة فلا تجاهل ولا تسفيه لمواقف معينة أو لجهات بعينها، وفي نفس الوقت ليس هناك اندفاع غير مدروس وغير محسوب العواقب. ولذلك فقد جاء التركيز في معالجة الأزمة الراهنة أن الشعب العراقي يجب أن يكون خارج اللعبة السياسية ويجب أن لا يدفع ثمن تلك المغامرات التي تتغلف أهدافها بالغموض والتناقض، وفي الوقت نفسه كان منصفاً ومدركاً للأخطاء المرتكبة من قبل القيادة العراقية عبر السنين، إضافة الى ذلك جاء الخطاب منطقياً في عرضه للمحاولات التي بذلت لتجنيب المنطقة شرور الحرب سواء تلك الجهود المحلية والإقليمية أو تلك التي تجاوزت الى مرحلة أرحب فضاء وهي المناقشات واللقاءات التي تمت في عواصم الدول الدائمة العضوية أو حتى في مجلس الأمن. وفي كل تلك المحاولات واللقاءات كان التوازن منهجاً وأسلوباً، وكان المنطق مطية اتخذت للتحاور والإقناع على السواء، فالحرب مرفوضة جملة وتفصيلاً لأن خاسرها ومنتصرها مهزوم في نهاية الأمر. ولذلك جاءت الدعوة الى إحلال السلم بديلاً وإعطاء المساعي والجهود الدبلوماسية فرصة كاملة لحل النزاع مع النظر الى الكفة الأخرى ومحاولة معادلتها بالتأكيد على ضرورة وأهمية تعاون النظام العراقي مع القرارات الدولية بحذافيرها.
يتضح توازن الخطاب أيضاً ومنطقيته وعقلانيته في حديثه عن مسؤولية الأمن داخل المملكة وعدم قصر وتقييد مسئوليته على جهة بعينها بل جعلها مسؤولية جماعية وحمّلها على عاتق المواطن جنباً إلى جنب مع المسؤول ...فإن أمن بلادنا مسؤولية مشاعة من الجميع، فكل مواطن شريف شريك في وحدة هذا الوطن واستقراره... تلك الخطوة جعلت الخطوة التالية تبدو منطقية مقبولة وهي طلب تكاتف الجهود بحسب المواقع لمنع من أراد زعزعة أمن الوطن واستقراره.
من السمات المميزة للخطاب - وهي سمة ملازمة للخطاب السعودي دائما- الصدق والشفافية والوضوح، ولذلك جاءت تلك السمة ديباجة للخطاب وافتتاحية له، وجاءت الجملة الأولى من الخطاب مبينة سببه والداعي إليه، ولذلك استخدمت لام السببية مع الإخبار لإيضاح ذلك الأمر سواء أكان ذلك الأمر متعلقا بالماضي أو المستقبل، ما حدث في الماضي متعلق بمحاولات منع الحرب والحيلولة دون وقوعها، أما المستقبل فهو الخطوة التي ستتخذ بعد ذلك. ويتضح صدق الخطاب ووضوحه في المصارحة بحالة البيت العربي المتداعية التي جعلت من المستحيل الخروج بموقف موحّد فعّال يتجاوز البيانات والتصريحات وتسجيل المواقف وإبراء الذمم. نعم إن تشخيصه لأسباب المشكلة واعترافه بها وتصريحه، هو دليل على وضوحه وصدقه واحترامه لعقلية المواطن والإنسان العربي بشكل عام.
إن مفردات الخطاب وجمله تبين وبوضوح وجلاء واقعيته في التعامل مع الأحداث، فمفردات مثل «الظروف بالغة الخطورة»، «المنطقة بأكملها تواجه أحداثا جساماً»، «الحرب يخسرها المنتصر والمهزوم على السواء»، «الرصاصة عندما تنطلق لا تفرق بين جندي محارب وبين طفل رضيع»، «أخطاء الحكومة العراقية عبر السنين»، «الاعتراف بعدم نجاح المساعي»، كلها مفردات تصور وبصدق الواقع كما هو، وكما جاء، وهي دليل على إشراك الخطاب للمواطن في المسؤولية بإعطائه الصورة الحقيقية كما هي، سواء جاءت كما يرغبها وكما يريدها أو جاءت عكس ذلك. واقعية الخطاب تبلغ قمتها بتصريحه بتغيير مسار جهود المملكة والتي ركزت في الأيام السابقة على منع الحرب ،التي بدا أنه لا يمكن تجنبها، ولذلك فالواقع يفرض أمراً آخر وهو تغيير اتجاه الجهود لتتحرك في اتجاه آخر وهو حماية الوطن والمواطنين من آثار وتداعيات تلك الحرب.
مع توازن الخطاب وواقعيته إلا أنه حافظ على بعض الثوابت المتعلقة بالمسؤولية الإسلامية والعربية والوطنية والمحافظة على القيم واستشعار مسؤولية الوحدة الوطنية. فها هو الخطاب يؤكد على أن مرتكز الانطلاق في حل القضايا المحيطة هو الانطلاق من المبادئ العربية والإسلامية وهي ولاشك استشعار لقيمة المسؤولية الدينية والعقدية، وها هو ينطلق من الإحساس بالمسؤولية القومية العربية وأن العراق يجب أن يبقى موحداً حرّاً مستقلاً وهو مبدأ لا تقبل فيه المملكة النقاش والمساومة. أما التركيز على استشعار أهمية المسؤولية الوطنية فقد بدا ذلك جلياً في الالتزام بالقيم العربية والإسلامية التي تعتمدها المملكة منهجا، وبالتأكيد على الموافقة الإجماعية الشعبية التي هي أساس الوحدة الوطنية التي تقوم على المنهج التنموي الإصلاحي ، كما أن الوحدة الوطنية تستدعي حماية المنجزات التي أسست وبنيت منذ سنوات طويلة مما أدى الى استقرار البلد وتحقيق تلك الوحدة التي قل لها نظير، وهو الأمر الذي ركز عليه الخطاب وجعله أحد الأسس الثابتة للمنهج السعودي.
وانطلاقاً من المنهج الذي انتهجته المملكة والخط السياسي الذي خطته المملكة لنفسها والذي اتضح من خلال خطابها السياسي فقد جاء القرار في التعامل مع الأحداث الراهنة متوازنا عاقلا يمكن تطبيقه والحفاظ عليه فهو منطقي في طرحه متوازن في أفكاره، صادق في مبادئه ومعتقداته، واقعي في معالجته، منطلق من ثوابت بعينها ملتزم بها ؛ ونتيجة لذلك جاء رفض المملكة القاطع للمساس بوحدة العراق أو استقلاله أو استغلال خيراته ومدخراته أو التعرض لأمنه أو احتلاله. مع تأكيد المملكة على عدم مشاركتها في الحرب على العراق مع حقها في التصرف بناء على ما تحدده مقتضيات مصالحها وما يستجد من أمور. ولا شك في أنه موقف واضح يتميز بالقوة وبالوضوح ويستخدم لغة متوازنة تربط بين الواقع والمستقبل وبين ما أمكن وما يمكن تحقيقه.
|