لا اعلم ان كان يحق لي ان اعتذر، ام ان اسجل مبادرة كتلك التي اشار اليها استاذي خالد المالك في سياق محاضرته التي القاها الاسبوع الفائت في قاعة الملك عبدالعزيزبمكتبة الملك عبدالعزيز التي نشرت في الجزيرة في عددها الصادر يوم الخميس، فلست ازمع ان ابري قلمي وان اختلف مع استاذي، ولست اختلف معه اصلا، ولكن التأدب يفرض عليَّ، الا امارس طرحاً مختلفاً في مطبوعتنا، ولم اعدم وسائل التعبير الاخرى.
لكني احببت ان اشترك مع بقية زملاء المهنة، والمهتمين، واللاعب الاول في بلاطنا.. واعني السيد القارئ، في استقراء واقع صحافتنا من زاوية أقل تفاؤلاً عن تلك الزاوية التي يمتلكها استاذنا في الجزيرة خالد المالك، فهو تجربة حية تعيش بيننا، اراه يقاسم الشباب الامل قبل العمل، شهادتي فيه مجروحة، وان كان بلسمه الصريح.
لكني اردت ان نشترك جميعاً في هذا الحوار من خلال الاحتكاك بهذه التجربة عبر النقاش.. ولا اقول الاختلاف!
وارجو ألا يتوقع احد مني ان التزم بسياق المحاضرة، فلست بصدد التعرض لها، لكني ازمع رؤية لواقع صحافتنا، قد يشوبها قصر التجربة، ويشفع لها سلامة المقصد.
وكما قال الاستاذ خالد المالك في استقرائه للرسالة الموجهة للصحافة، ضمن عدد من القطاعات، حول القيام بدورها لتبني الهموم اليومية للرجل البسيط الذي قد يقبع في طرف السلم الاجتماعي.
كنت استقرئ في هذا الحديث اشارة من استاذي في ان مسؤولية الصحفي، مسؤولية قبلية وليست بعدية، وافهم كذلك ان الصحفي صاحب مبادرة، لاينتظر الاشارة وانه في المقابل، مالم يتحدث عن مهنته، ويعبر عن رأيه من اجلها، فلن يلتفت اليه احد.. مهما طال بقاؤه «ومهنته» في طرف السلم المهني.
ولما كنت افهم شيئاً مختلفاً، واخشى الا يقنعني مزيد من التفائل، وارغب في ان نطرح قضايانا المهنية، بعيداً عن حساباتنا التنافسية، او حتى ادبياتنا المهنية التقليدية.
لاجل ذلك، اردت ان امارس جهدي، في محاولة تطوير فهمي، بالاحتكاك المباشر.. برأيكم العام.
كما اني لست بصدد ممارسة التنظير على العالمين، ولكني كذلك لا اجد مبرراً لتكرار التنويه على ان هذا الطرح لايعدو كونه «وجهة نظر» انشرها انطلاقاً من قناعتي التامة بأنني هكذا اراها.. وانها هكذا قد تكون!
وقد لايختلف معي احد في ان صحافتنا المحلية تمر بعصر ذهبي، منذ نشأتها التاريخية، برز ذلك في العديد من الوجوه التنظيمية والادارية.. بل وحتى التحريرية، كما انها استفادت بشكل ما، من الثورة المعلوماتية في العقد الاخير من القرن المنصرم، وانعكس ذلك على تنامي مكانة الصحافة وتربعها على مراتب متقدمة وفاعلة، سواء امام القارئ او المسؤول، مما جعلها مرشحة لممارسة ادوار اكثر فاعلية في الحياة العامة.
ولعل العنصر الرئيسي حسب فهمي لهذا التنامي في صحافتنا اليومية، يعود بشكل او بآخر لتطور هوامش الحرية، الذي جاء مواكباً لتطور الممارسة الاحترافية بشكل مسؤول، يبرر مزيداً من اختبار مساحات الحرية.
فالحرية ليست نظاماً محدداً، ولاهي عكس ذلك باللانظام «العشوائية». الحرية المطلقة، مفسدة مطلقة، لا اجد لها مايبررها.
كذلك فقد ساعد التطور العالمي لتقنيات هذه الصناعة في منح الصحف المحلية خيارات تنافسية جديدة كان لها اثرها في استقطاب القارئ من جديد، ساعد على ذلك الارباح «غير المتوازنة» التي يمنحها سوق الصحافة اليومية للمؤسسات الصحفية التي تستثمر في هذا القطاع.
ويبدو ان صحافتنا تعاني بشكل رئيسي من النمو غير المتوازن على مختلف المستويات، فالتورم.. لايعني الصحة دائماً!
ويتمثل عدم التوازن في عدة امور بداية من مفاهيم الحرية، والحقيقة، والوطن، مروراً بمشاكل البطالة المُقنَّعة، والكساد المُقنَّع، وعدم تكافؤ الفرص، اضافة الى ارتفاع الاخطار المهنية كونها مهنة رأي.. واخبارها شهادة تبيعها بالمال!
نهاية ببقية مشاكل التوزيع والتسويق والمطبوعات والنشر.
كما انها تعاني من الازدواجية في بعض ادوارها مرة باتجاه القارئ، ومرة باتجاه المعلن!
وآمل ان يعذرني استاذي وزملاء المهنة، عندما اعتقد انها «مهنة من لامهنة له»! فهي تجمع الطالب بالمدرس بالحكم الرياضي بالفنان التشكيلي.. بالشاعر، لكن الصحفي، مهنة اخرى!
ومهما كانت خلفيتهم الصحفية الممارسية، الا ان ذلك يبقيهم ضمن مظلة القراء التفاعليين، ولكنهم في مرحلة متقدمة ربم مالم تصقل هذه الممارسة ليواكبها اعادة تأسيس للمفاهيم والادوار والحقوق والواجبات.
والتعذر بجدب سوق الكوادر الاعلامية، قد يكون مقبولا قبل ان يكون هناك الاف من خريجي اقسام الاعلام على مر عقود من الزمن، او حتى قبل توافر خيارات التعليم الاهلي وامكانيات المعاهد العالمية الزائرة، فإذا كان هولاء غير صالحين، فنحن امام مشكلة تأهيلية.. يمكن حلها!
اما اذا كانوا «عازفين» فنحن هنا امام مشكلة موقف! يجب تحديدها والعمل على حلها! لكني لا اجد ما يقنع في ان نكررمنذ 40 سنة انه «ليس لدينا كوادر» «ليس لدينا انظمة» او تلك العبارة العاجزة.. «مايخلونا»! اذن ماذا قدمنا خلال هذه المدة؟ سوى اعداد يومية تنتهي صلاحيتها بعد الساعة الثانية ظهراً! وبالتالي.. اذا لم يكن هناك «اصحاب مهنة» فستصبح هذه المهنة «مهنة الاصحاب» لتصبح نوادي مجاملات اجتماعية ومراكز علاقات عامة ناشرة!
ونكون بذلك في اشد حالاتنا تسطيحاً للقارئ، بل حتى اننا نعكس صورة غير دقيقة عن فهمنا للمجتمع وتطور الوعي والثقافة وارتفاع معدلات التعليم فيه، بالعجز نفسه الذي نعكس به مساحات الحرية الملتزمة المتاحة، التي يضمنها النظام.
واذا ترك اصحاب المهنة مهنتهم، فسنبحث بالتأكيد عمن يكتب عن معاناتنا وينقل تصوراتنا، بعد ان كنا من يقوم بذلك.
واتمنى ان تجدوا في هذا الحديث، مايبرر نظرتي التشائمية.. او ربما الحالمة لواقع صحافتنا!
«كنت قد اخترت لمقالي هذا عنوان «صحافتنا ليست هي الحقيقة.. ولاهي شيء يشبه الحقيقة» ولا اعلم ان كان هذا العنوان قادر على اقناع الرقيب باجازة اقتراحي للعنوان ام لا.
ولكن اذا فشل هذا العنوان في تجاوز رؤية الرقيب، فبالتأكيد انكم لن تستطيعوا قراءة هذه السطور لأنها ستكون ضمن جملة المحذوفات التابعة للعنوان».
عندما ارفع مادة للاجازة من قبل رئيس التحرير، فإنه يفترض ان اكون قابلاً مسبقاً باعتماد رؤيته في النشر، انطلاقاً من صلاحياته المهنية كناشر، اضافة الى قناعتي التامة بأنه يرى اشياء ابعد من تلك التي يسمح بها موقعي في الهرم الاعلامي.
لكني لا اتوقع ان يقترح عليَّ عنواناً مشاغباً لهوامش الحرية! فدوره يتركز في التوجيه والاجازة.
هكذا افهم اكتشاف هوامش الحرية على طريقة السباحين العميان، الذين يسبحون يسبحون.. حتى يرتطموا بالحائط.
ويفترض ان يمارس كل منا السباحة باتجاه حدود الحرية التي يمنحها له ناشره ( صاحب الحق في اذن النشر) التي تسمح بالتجريب والاختبار واعادة التقييم خلال مراحل النشر المختلفة «فلاهي قبلية، ولا بعدية، وانما متزامنة بحسب موقع و طبيعة الناشر وصلاحياته التي تمنحها له مسؤوليته القانونية والاخلاقية».
وبتدريب بسيط، يستطيع الصحفي ان يفصل المقاطع المهددة بالحذف عن سياق حديثه بما يمنح الرقيب فرصة ممارسة دوره بشكل لايؤثر في سياق المادة المنشورة، كما يسمح بتوفير وقت رئيس التحرير ووقت المحرر الذي لن يكون مضطراً لنقض المادة ونسجها من جديد فيما لو كانت الفكرة «الحرجة» منثورة بين جنبات المادة.
وهذه بحسب فهمي هي محاولة الصحفي اختبار وتجريب هوامش الحرية، مستفيداً من ادواته اللغوية والانشائية في تقسيم المادة، اضافة الى انها تعكس حساسية المحرر للنشر.
ويؤدي عدم التمكن من هذه الادوات، اضافة الى قصور الفهم الخاص بالحس الصحفي الذي يفسر خطأً بأنه الحساسية تجاه الاثارة.
الامر الذي يجعل الصحفي يعيش «وهم» الخطوط الحمراء، والشعور بالتذمر تحت وطأة الهامشية، وبالتالي فقده لقيمة العمل الذي يقوم به وتحول ممارسته الصحفية لتصب في زاوية المصالح الشخصية او المباشرة.
ان الحرية الصحفية حسب فهمي، هي فن ومهارة التعامل مع الرقيب، وبحسب هذا الفهم، فإني اعتبر كل النماذج الاعلامية هي نماذج «حرة» فليس هناك كلمة مقدسة او فكرة لايمكن تمريرها.
واذا كان الشاعر «كمتخصص» يعبر عن افكاره ويصور الحدث ملتزماً بمعايير لغوية وايقاعية فمن الباب نفسه يحق لنا ان نتوقع قوالب خاصة ولغة خاصة للمادة الصحفية.. يجب ان تكون ملزمة للجميع.
وبحكم ان سلعتنا «لغة» واللغة حسب فهمي هي الجلباب الحي للحقيقة، لكنها بالتأكيد ليست هي الحقيقة!
فالحدث له حقيقة خارج قوالب اللغة، ينقله الصحفي معجوناً برؤيته الخاصة كصاحب رأي.. وليس «كوسيلة» نقل فقط!
واللغة كائن حي، ومخلوق فضفاض، يحتمل الكثير من التأويل مما يفرض علينا النهوض بالقدرات اللغوية للتحرير، وتطوير اساليب تطويع اللغة، بما يخدم التدفق الآمن للمعلومة «آمن من الجهتين» وبما يسمح بمرور النوايا الحسنة، دون ان ينقض الطمأنينة والاستقرار التنموي.
كما ان الاعتراف العملي بتطوير معايير النشر والاعتراف بوجود انظمة دقيقة تسمح فقط بتحرير «النوايا الحسنة» من خلال انتخاب لغة صحفية موحدة، قادرة على الالتزام بمعيارية التوثيق والنشر توفر ضمانات للقارئ تمنع هذه الصحف من قلب موازينها امام القارئ عندما تنشر مواد تعود لتكذيبها في وقت لاحق!
ثم ان التوثيق لإيعني بالضرورة احقية النشر، او مبرراً كافياً لإثبات حسن النوايا!
فالحديث عن الصحافة على انها مرآة الحقيقة، حديث فضفاض، وتعبير يحد من قيمة الصحفي ودور الصحافة، لذلك لا اجد ما يدفعني للاعتقاد بأن الصحافة هي الحقيقة بل اني انظر على انها ليست الحقيقة وانما شيء يشبه الحقيقة، فالحقيقة شيءٌ لايحق لأحد ان يدعي امتلاكه، ثم ان دور الصحفي لايفرض عليه ان ينقل الصورة بجميع تفاصيلها المهمة وغير المهمة، ولكن الصحافة عملية نقل انتخابي تفرضه طبيعة العلاقة بين الصحفي والحدث من جهة وبين فهمه لمثلث العلاقة بين الحدث والصحفي والقارئ من جهة اخرى.
والنظر للصحفي «كأنسان مبدع» فيه حد لدور الصحافة وتكريس لمفهوم «الصحافة الادبية»، لكن الصحفي ليس مبدعاً بقدر ما هو ناقد، والناقد يحق له ان يسلط الضوء على اي جزء يرشحه من النص «الحدث»، فالصحفي يقدم خدمة اخبارية انتقائية بالدرجة الاولى وتكمن رهانات هذه الخدمة في الرؤية الخاصة التي يقدمها للقارئ.. لكن الاحداث لوحدها اشياء ملقاة في الطريق!
والاعتقاد بأن الصحافة هي الحقيقة يورطنا في نشر قوالب مكررة للصورة نفسها، وبالتالي يقتل الاجواء التنافسية ويجعل قراءنا قراء «المطبوعة الواحدة» الامر الذي يحد من توسع السوق وبقاء الصحافة في مراتب متأخرة استثمارياً تجعلها في امس الحاجة «للاشتراكات الحكومية».
والصحافة مهنة يصعب تصنيفها فيما اذا كانت مهنة فردية او انها جماعية، واعتقد انها مهنة فردية تعمل بعقل جمعي هو «رئيس التحرير» وليست تعمل بطريقة الفريق ويجب ان يدعم عملها الجماعي من خلال الانظمة وان تعزز من جهتها مهارتها الفردية من خلال السعي لايجاد وتعزيز البصمات الخاصة للمحررين ثم لصحفهم بالتالي وبذلك ستنعكس بشكل مباشر على معدلات الربحية والاجواء التنافسية، وتشجع على عودة القارئ لصحافته المحلية بصورة اكثر احتراماً وتقديراً لهذه المهنة ودورها في المجتمع.
واعتقد ان من يريد حقيقة الحدث فهو مطالب بأن يذهب لموقع الحدث اما الصحفي فهو ينقل لنا ما يعتقد انه مناسب لتمرير رسالة معينة من تغطيته لهذا الحدث اياً كان.
فالصحفي ليس «عيناً» ناقلة وانما هو عين «راصدة» ولكن وبسبب قصور بعض الصحفيين عن الوصول لفهم موحد تجاه هذه النقطة، فقد تكرس لدينا القالب الرسمي في صحافتنا المحلية الذي اصبح معتمداً من قبل كثير من اولئك الذين «يدورون السلامة» وعينهم الاخرى على عدد صفحات الاعلان واجتماع مجلس الادارة لتوثيق هذه النجاحات «غير المتوازنة»، متخلين بذلك عن دورهم في تطوير هذه المهنة و المسؤولية التاريخية الملقاة على عاتقهم في هذه المرحلة الحساسة.
ان وجود الاشتراكات الحكومية يوفر دخلاً ثابتاً، ونسبة مجزية لتكاليف الطباعة، كما انه يوفر ارقاماً «شبه وهمية» للمعلن الذي لايزال يراهن على الصحف المحلية التي لم تثبت فاعلية متميزة او بصمة خاصة في اكثر من اعلانات العزاء والتهاني والقصائد المعلنة.
ومن هنا اجد مايبرر لي الزعم بأن المؤشرات الفنية او الاستثمارية لتطوير صحافتنا مؤشرات غير دقيقة وغير حقيقية بشكل او بآخر.
فهذه صناعة «رأي» وليست صناعة «طباعة»! وهي تتطور بالدرجة الاولى «بالتجويد» اكثر من «التجديد»، فالتجديد وهذا الواقع يعتبر «تغييراً» لكنه ليس تطويراً ولذلك اجد ان مسؤولية المستثمرين في هذا القطاع سواء على المستوى المالي او الثقافي ان يلتفتوا بجدية إلى رأسمال استثمارهم الصحفي الذي هو العنصر الاول في الانتاج لهذه الصناعة او ان يحولوا استثماراتهم في اتجاهات اخرى اقل خطراً وأكثر ربحية.
ان حصر الصحافة في قوالبها الفنية يهددها بمواجهة موجة كساد وشيكة على مستوى الاستثمار المالي وحتى الثقافي اذا استمرينا في عزف نغمات التفائل غير المبررة قياساً بالامكانيات التي يوفرها الدعم الحكومي من الناحية النظامية والمادية.
فالمادة الاولى من السياسة الاعلامية للمملكة مجال خصب لفهم الحرية الصحفية بمعيارية دقيقة تحافظ على الخصوصية بما يمنحها فرصة ان تكون بصدق صحافة سعودية لها بصمة خاصة، كما انها تنبثق من نظام تشريعي سماوي مميز وله بصمة مشرفة على مختلف المستويات.
واذا استطاع القائمون على تعليم البنات ان يبرزوا ملامح خصوصيتنا المجتمعة في ايجاد هرم تعليمي نسائي مستقل على مستوى التطبيقات، فأعتقد أن من واجب الصحفيين إعادة غربلة مفاهيمهم والسعي لتقديم نموذج اعلامي حضاري ينحدر من الاسس الاسلامية في ضمان حقوق الفرد والجماعة بما يرسخ مفهوم «السفينة» كممارسة اكثر منها مجرد «نوايا» فالنوايا الحسنة وحدها لاتبرر صعودنا السلم من الأعلى ولاحتى بقاءنا في الاسفل!
ولعلي اجتهد لأفهم قول الله تعالى «ادفع بالتي هي أحسن» وقوله تعالى «وجادلهم بالتي هي أحسن» كأحد المحددات الاعلامية، وقالب من قوالب ممارسات الرأي.
واجد في الآية الكريمة «إن الله لايحب الجهر بالسوء» فهم محدد لحساسية النشر وترسيخ لمفهوم خطر المعلومة ولتتحول بذلك قناعتنا بأن «ماكل مايعلم يقال» الى ممارسة تنظيمية.
ترى.. الا يمكن ان نحول الكثير من النصوص الى مواد تنظيمية تفصل المادة الاولى من السياسة الاعلامية للمملكة والمادة الاولى من النظام الاساسي للحكم؟! وبقليل من الجهد ايضاً.
ولكن، لن نتمكن من طرح هذه النماذج على طاولة الصياغة مادامت صحافتنا تعمل وتقاتل من اجل اصدار «عدد الليلة».
الامر الذي يجعلنا نقبل اول الملتحقين بمهنة الصحافة مقابل «خبر» قدمه بشكل او بآخر، ثم التورط في تقديم هذه الاسماء للقارئ، وايضا توريط هذه الاسماء في دعم قناعتها للتصديق بأنه يمكنها بجهد كهذا ان تنخرط في بلاط صاحبة الجلالة.
ثم نفيق بعد عقود من الزمن لنتذمر من جدب الكوادر!
وكيف نتوقع ان يكون لدينا كوادر ونحن نقبل الفريق كما هو الفريق، بموءودهِ وموقوذهِ ومترديه والنطيحة! كيف نقبل محرراً دون تدريب ونمنحه فرصة لتعلم الحلاقة في رؤوس الايتام! نعم ان هذا هو مانقوم به للاسف عندما نمارس جلد بعض القطاعات عبر اقلام غير واعية لامهنياً ولا اجتماعياً ولا سياسياً.
ولذلك اجد مايبرر لي الاعتقاد بأن على الصحافة واجب تجاه نفسها في ان تمارس نقد الذات ولو كان في ذلك شيء من الجلد، لنمنح الجميع فهماً متساوياً للحيادية، ولتصبح الحيادية «سلوكاً» اكثر منها صلاحية نستخدمها متى ما فارت دماؤنا تجاه اي قطاع او قضية لانرتبط فيها بمصالح مباشرة.
أو ان تصبح الصحافة والحيادية وسيلة لتصفية الحسابات بين الخصوم او المتنافسين..
ان المؤشرات التي يمنحها السوق الصحفي لاتعكس بجلاء المرحلة الحقيقية التي وصلت لها الصناعة الصحفية في المملكة.
وقد لايختلف اثنان من القراء عداك عن العاملين في هذا القطاع على التباين في الخصوبة الاستثمارية المتفاوتة بين الصحف المحلية، فالمليونُ المستثمرُ بهذه الصحيفة يعد بهامش ربحي غير ذلك المليون في صحيفة اخرى.. وتكمن المشكلة في انهم يمارسون الاخبار نفسها وكذلك معايير النشر واسلوب الطرح؟!
وبالتالي فأرقام التوزيع وحجم السوق لايعطي مؤشرات حقيقية للواقع!، وليس صحيح أن سوقنا الصحفي تتنافس فيه 8 صحف يومية فقط! ومنافذ البيع وقوائم الشركة الوطنية للتوزيع تشهد على ذلك، فهناك العديد من المطبوعات التي استفادت من المستهلك السعودي للمواد الاعلامية لكنها لاتخضع لمحددات النشر نفسها سواء الادبية او القانونية، وبالتالي فهي منافسة غير متوازنة، لايمكن المراهنة عليها على المدى الطويل لمواكبة الادوار المنوطة بالصحافة في مثل هذه الفترة التاريخية ولذلك لم تقدم الصحافة السعودية حسب توقعي ايَّ نموذجٍ خاص لتطوير الصحافة العربية وبالتالي الصحافة العالمية بشكل عام، بل انها في بعض حالاتها لاتزال تحصر مساهمتها في واجبها العربي في نطاق الصفحات الدولية والرهان على الخبر الدولي الذي قد يكون رهاناً منطقياً قبل عام 1990م لكنها الآن مجرد صفحات زائدة في الجريدة التي تبيعنا الاعلان.. على انه صحافة، سيما ونحن نملك مقومات التميز التي لاينافسنا عليها احد!
واجد في عبارة صاحب السمو الملكي الأمير عبدالله بن عبدالعزيز اشارة الى الدور المنوط بكل القطاعات ومن ضمنها الصحافة عندما قال «ان المملكة واجهة مسلمة» وهذا يفرض على العاملين فيها البحث عن آليات منبثقة من النظام الاساسي للحكم والسياسة الاعلامية للمملكة، ويجب ألا نتوقع ان يأتي احد ليمنح الصحفيين الحرية في ممارساتهم الصحفية، وانما هي حق نحصل عليه متى ما التفتنا الى كوادرنا ومعاييرنا واعدنا غربلة مفاهيمنا الاعلامية.
ان صحافتنا المحلية بحاجة الى اكثر من القوائم السنوية لتأكيد تطورها، كما ان في علاقة القارئ بالصحافة ودرجة المصداقية اهم المؤشرات على تطور الصحافة من عدمها.
فيما لاتوفر الارقام والقوائم سوى ارقام «مقارنة» لكنها ليست مؤشرات نجاح على المقياس المهني او المقياس الذي يتوخاه القائمون على تنظيم هذه الصناعة، بل حتى انها ليست مؤشرات دقيقة للمناخ الاستثماري في هذه الصناعة!
ان ماتقوم به صحافتنا من القبول بالنشر للمتعاونين دون الحد الادنى من التدريب، يعتبر في وجهة نظري مقاولة من الباطن لإعادة آراء ووجهات نظر القراء اليهم بعيداً عن الطبخة الصحفية، وقد ينجح الصحفي المبتدئ «بالمصادفة» في توفير مادة قابلة للنشر، لكنه سيحصل كل يوم على سمكة.. ولن يعرف ابداً كيف يصيد السمكة! ويأتي ذلك من سعي الصحف لرفع معدلاتها الربحية دون الدخول في التزامات مالية اضافية.
ولكن وبعد ان يمضي هذا المحرر عدة سنوات في الممارسة الصحفية فقد تطور حسه الصحفي بشكل «غير مقصود» الامر الذي يسهل علينا اعادة تأهيله بوقت وتكاليف اقل، وارجو ألا يفهم من حديثي اني ادعو الى الاستغناء عن دور المحرر المتعاون ولكني اميل الى اعادة تأهيله لنحصل على مادة متساوية من جميع الذين يمثلون الجريدة وبمعاييرها نفسها دون ان نلغي البصمة الخاصة للصحفي بحيث تكمن بصمة الصحفي في الفكرة «الرأي» ولكن الاسلوب يجب ان يتحول الى آلية عمل محددة لايمتلكها الا اصحاب المهنة.
ان تطور التقنية وانحسار الوقت اللازم للاصدار ادى الى تحول صحافتنا من القالب الادبي الى القالب الخبري، على الرغم من ان هذا التحول حدث في القوالب النظامية نفسها!
اردت ان اقول اننا امام مشكلة فهم للنظام ولسنا امام انظمة اقل من طموحاتنا.. ان الصحافة مطالبة بتقديم نماذج اكثر احترافية مما هو موجود لنتمكن من استنفاد جميع المساحة المتبقية من هامش الحرية، لكي نستطيع ان نتحدث عن القضايا المهمة للمجتمع بأكثر من جرأة «طاش ما طاش» مع ان مرجعنا واحد! قبل حديثنا عن مزيد من مساحات الحرية.
واعود للتأكيد على كلمة استاذي في ان الصحفي والصحافة مهنة مبادرة لاتنتظر الايعاز.
وان الصحفي في وجهة نظري ليس كالطفل الذي ينتظر التصفيق لكل عمل يقوم به كالكبار.. انما هو طفل يصر على عمل يراه الآخرون تافهاً.. حتى اذا شابوا.. بدأوا يقلدونه!
في حين انه منهمك في عمل تافه آخر!
|