من أهم النتائج التي أظهرتها الحرب التي نعيشها في هذه المنطقة - حتى اليوم - سيطرة الإعلام على مجريات الشؤون العسكرية التي تدور حالياً بين قوات التحالف الأمريكية/البريطانية وبين القوات والميليشيات العراقية.. ويمكن اجمالاً التأكيد على ان البنتاجون الأمريكية كانت تخطط للطريقة التي كانت ترغب العالم ان يتعرف بها على هذه الحرب جنباً إلى جنب مع الطريقة والاستراتيجية العسكرية التي كانت تزمع تطبيقها في هذه الحرب.. أي ان الخطط العسكرية كانت تشتمل على خطط إعلامية أساسية ضمن منظومة التفكير الحربي لجنرالات الدفاع الأمريكيين.. أو لنقل وبدون أدنى مبالغة ان الخطط الإعلامية الأمريكية كانت تشتمل على خطط فرعية لها توصف بأنها عسكرية.. ومن كان يتابع الزخم الإعلامي الكبير الذي كانت تدفع به الإدارة الأمريكية ممثلة في الثالوث الموجه (البيت الأبيض، وزارة الخارجية، ووزارة الدفاع) إلى العالم وخصوصا أجواء المنطقة الشرق أوسطية يستطيع ان يدرك ان الولايات المتحدة كانت تخطط أساسا لحرب إعلامية واسعة تنضوي تحتها حرب عسكرية فرعية.. فقد كان التخطيط الأساسي هو ان تفوز الولايات المتحدة وبريطانيا بالحرب من خلال معركة إعلامية دون اشتراك أي جندي أمريكي أو تحالفي في هذه الحرب.. رغم انتشار هذه القوات في كل أرجاء المنطقة وبحارها الأربعة.
وكان المخططون العسكريون يسعون منذ البدايات الأولى إلى محاولة توجيه دفة الإعلام العالمي - والأمريكي والبريطاني - على وجه الخصوص نحو جوانب معينة في هذه الحرب، وإلى مساحات محددة في هذه المعارك، وإلى مضامين انتقائية في الكلمة والصورة بحيث تكون هذه التغطيات عوناً للعسكريين في حربهم ومجهودهم الحربي، وليس سبباً في فتح جبهات أخرى تعيق المخطط العسكري في مراكز القيادة والتحكم والطيارين والجنود في أرض المعركة.
وكان البنتاجون منذ البدايات قد وظف حوالي خمسمائة إعلامي من مختلف المؤسسات الأمريكية صحافة وإذاعة وتلفزة ووكالات ليكونوا مجندين في خدمة المجهود الحربي الأمريكي.. وقد تم اعطاؤهم دروساً واضحة ورسم خطوطهم الحمراء التي لايمكن ان يتجاوزوها بأية حال.. رغم كونهم يرافقون هذه القوات حتى الجبهات الأمامية.. لأنهم يعرفون انه حيثما تصل القوات في هذه المعركة تكون تغطية وسائل الإعلام إلى هذا الحد والذي يكون من تحصيل الحاصل اعتباره انجازاً للقوات الأمريكية.. وهكذا قد يبدو في الظاهر ان وسائل الإعلام قد اخترقت المؤسسة العسكرية الأمريكية ولكن في حقيقة الأمر هو اختراق مطلوب ومفضل من قبل الإدارة العسكرية الأمريكية..
هذا على الطرف الأمريكي أما الطرف الآخر.. ونقصد به الإعلام في الداخل العراقي أي ما يقع تحت السيطرة العراقية، فهو إعلام غير مرغوب، وصحافة خارجة عن الشرعية والقانون الأمريكي.. وقد شكلت التقارير التي رفع بها مراسلو الوكالات والإذاعة والتلفزة والانترنت اعتراضاً غير متوقع وخروجاً غير منتظم مع الاستراتيجية الإعلامية للحرب.. ولهذا فقد هددت الولايات المتحدة في أكثر من مناسبة ان صواريخها وطائراتها قد تدك الفندق الذي يسكن فيه الإعلاميون والصحافيون الذين يحاولون ان يعطوا صورة محايدة أو صورة غير تلك التي يريدها الأمريكيون.. ان هذا التهديد الذي وجهته الإدارة العسكرية الأمريكية في هذه الحرب هو انتهاك خطير جدا لحرية الكلمة ولقيم واخلاقيات الإعلام.. وهو محاولة صارخة لتكميم أفواه الإعلاميين في ان يقولوا كلمتهم المنصفة ويعطوا رؤيتهم المحايدة تجاه هذه الحرب.. وقد يجد البعض عذرا في أن طبيعة الحرب قد تستدعي ضرب المؤسسات الإعلامية للعدو (إذاعة وتلفزة) وهذا ما فعلته القوات الأمريكية بأجهزة الإعلام العراقية، إلا ان محاولة تهديد كل صحافيي العالم وإعلامييه هي محاولة ابتزازية فاضحة للنوايا الأمريكية في هذه الحرب.
ان الملاحظ خلال الاسبوعين الماضيين بشكل خاص ان الولايات المتحدة تكاد تفقد توازنها الطبيعي، وتشهد أروقة البينتاجون ودهاليز السيلية تخبطات كبيرة في التصريحات، والأفكار، والخطط.. فما تخشاه الإدارة الأمريكية هو ان تؤثر التقارير الإعلامية والتغطيات المباشرة على توجيه دفة الرأي العام الأمريكي إلى مواقف مناهضة للحرب بعد ان كانت مؤيدة لخطط التدخل العسكري في العراق.. ولهذا فقد كمم جنرالات الحرب الأمريكيون أفواه الصحافة، وأغلقوا مصادر الأخبار، وضيقوا على الإعلاميين من أجل خنق الرأي الآخر وكل ما يغاير الرؤية الأمريكية.
* فما الذي تراهن عليه الإدارة الأمريكية؟
من المؤكد ان الإدارة العسكرية للحرب الأمريكية على العراق تراهن على التمويه على الرأي العام الأمريكي، بهدف تضليله خلال هذه الحرب، حتى تنجلي الأمور وتتضح النتائج.. فكلما طالت الحرب، تعقدت الخطط العسكرية، وكلما اطلع الرأي العام الأمريكي على مزيد من الصور الحقيقية والتفاصيل الفاضحة والانتهاكات الإنسانية، تبدأ مرحلة تحول الرأي العام إلى موقف مضاد للحرب، واتجاهات معارضة لاستمرار هذه الحرب.. وهذا ما تخشاه الولايات المتحدة.. لأن الوصول إلى هذا المستوى من القناعات لدى المواطن الأمريكي يؤدي حتما إلى بعثرة أوراق البينتاجون وتطاول الإعلام الأمريكي على مصداقية الرئاسة الأمريكية، وتنامي الحملات المناوئة للحرب والتدخل في الشؤون العراقية.. وهذا قد يطيح بخطط التطرف اليميني داخل المؤسسة الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط.
(*) رئيس مجلس إدارة الجمعية السعودية للإعلام والاتصال - أستاذ الإعلام المساعد بجامعة الملك سعود
|