السؤال عن ماهية الخطاب المقنع؟ وكيف يكون الخطاب مقنعاً؟ وما هي وسائل الإقناع؟ هو سؤال مشروع في خضمّ الخطابات والتصريحات المتسارعة هذه الأيام.
الإقناع هو أحد الأهداف الرئيسية للخطاب وإن لم يكن هدفه الوحيد، والإقناع مرتبط بالتصديق والاعتقاد، فلكي تقنع شخصاً ما بأمر معين أو بحقيقة بعينها فلا بد من أن تنجح في أن تجعله يصدق ما تقوله ويعتقد بوجاهته وبحقيقته ويتحول هذا الاعتقاد بالحقيقة إلى مسلمات لديه لا يداخلها الشك ولا يرقى إليها الريب.
وقناعة الخطاب ترتبط بيقينيته وبتوافر معطيات كثيرة لعل ذكر الحقيقة يأتي على رأس قائمتها، ولكي يكون الخطاب مقنعاً فإضافة إلى وجوب الصدق والحقيقة في معرفته ومعلوماته فلابد أن يكون أيضاً منطقياً متسلسلاً في أفكاره مترابطا في جمله لا تتضارب حقائقه ومعلوماته واستنتاجاته.
والمتأمل للخطاب السياسي والإعلامي الصادر هذه الأيام من واشنطن ولندن ومن بغداد يرى العجب العجاب في أسلوب الخطاب الصادر عن هذه الجهات مما يؤدي إلى خلق علامات استفهام كثيرة في مخيلته وقد تؤدي به في بعض الأحايين- وما أكثرها- إلى الإحساس بالاشمئزاز من سماع هذه التصريحات، الأمر الذي يقوده إلى السخرية من مثل هذه الخطابات، فعلى سبيل المثال عندما يؤكد الرئيس جورج بوش في مؤتمره الصحفي في كامب ديفيد الذي جمعه مع رئيس الوزراء البريطاني توني بلير على متانة وحجم التحالف الدولي بقوله: «حشدنا تحالفا دولياً أكثر من تحالف عام 91م حيث إن هناك حليفا وراء حليف وكلهم يقفون معنا» إنه هنا يؤكد على حجم التحالف الدولي ويطلق هذا المسمى على المجموعة التي تضم أمريكا وبريطانيا مع أن هناك تحالفا دوليا يقف في الجهة الأخرى المخالفة لتوجه هذه المجموعة التي يسميها الرئيس بوش بدول التحالف، وهذه حالة فريدة من نوعها في التاريخ الإنساني كما يراها بريان ويتكر الذي كتب في صحيفة الجارديان أنه «من الصعب أن نتذكر حربا أثارت كل هذه المعارضة حتى قبل أن تبدأ كما هو الحال مع هذه الحرب.
فعلى أفضل الفروض يمكن القول بأن شرعية وهدف هذه الحرب محل شك كبير، أما على أسواً هذه الفروض فإن الملايين من البشر حول العالم يرون أنها غير مشروعة أو غير أخلاقية أيضاً».
وفي المؤتمر نفسه يصرح رئيس الوزراء البريطاني بقوله«.. عدالة قضيتنا تكمن في حرية العراق.. ومهمتنا هي الحفاظ على وحدة وسلامة الأراضي العراقية.. وسنجلب مستقبلاً مشرقاً للشعب العراقي» وهو تصريح لم ينطل على أحد من الحاضرين وربما لم يصدقه إلا رئيس الوزراء نفسه، وهو مشابه للتصريحات التي يطلقها وزير الخارجية كولن باول التي منها على سبيل المثال«سنستخدم ثروات العراق ونفط العراق في مصلحة العراق»، نسعى لتحرير الشعب العراقي وتحقيق حريته»، «سنزيل النظام ونأتي بحكومة تمثل الشعب العراقي» ومثله وزير الدفاع دونالد رامسفيلد الذي صرح أخيراً «أن الدبابات الأمريكية تجوب العراق الآن وهي تحمل معها الغذاء وتوزعه في كل مكان»!!
إن مثل هذه التصريحات غير المقنعة لبعدها عن الحقيقة وعن الصدق قادت إلى فشل إعلامي كبير في إدارة الحرب الدائرة رحاها في مقابل مصداقية إعلامية عراقية رغم اللغة الحماسية والمتشنجة أحياناً التي يتحدث بها المسؤولون العراقيون، ومرد هذه المصداقية أن الخطاب العراقي والبيانات العراقية الصادرة تتسم بقدر كبير من الدقة في الحقائق مقارنة بما تصدره القوات الأمريكية البريطانية من بيانات.
فالحقيقة يمكن تصديقها وفي المقابل يستحيل الاقناع بخطابات تصرح بشيء وتخفي أشياء أخرى وما تصرح به يظهر الواقع عكسه، ولذلك فمهما قيل عن «ضباب الحرية» وعن «الصدمة والرعب» فإنها لم تقدر على تدمير الإرادة السياسية للشعب العراقي ولم تعن بالنسبة للآخرين سوى الإرهاب على الطريقة الأمريكية وأنها لا تعدو إلا ان تكون جريمة ترتكب بحق الشعب العراقي من قوات غزو ادعت التحرير، فلا الحرب جاءت نظيفة كما ورد في خطاباتهم ولم يقتنع أحد بهدف مجيئهم لأجل تحرير العراقيين من أنفسهم، والمنطق لا يقبل أن تقتل دولة عظمى مئات الالاف من شعب دولة أخرى بحجة إنقاذه من نفسه ومن نظامه، إنه من الصعوبة قبول الخطاب الذي يتحدث عن شرعية الأمريكان في حربهم وعن التزامهم بحقوق الإنسان وبمطالبتهم بتطبيق الأعراف الدولية فيما يتعلق بالأسرى فكيف يتم تجاوز الشرعية في فرض هذه الحرب ويطالب بتطبيق الاتفاقيات عندما تم أسر جنود هؤلاء« المحررين»!!.
مثل هذا الخطاب البعيد عن الإقناع جعل الصحفيين يضيقون ذرعاً بتصريحات الرئيس بوش وضيفه في المؤتمر المشار إليه آنفاً ويتساءلون عن مدى عدالة القضية التي يتبناها هؤلاء؟ وعن الجرائم التي ارتكبها النظام العراقي بحق الإنسانية والمطالبة بتحديد هذه الجرائم؟ ولماذا يغيب الدعم الدولي عن قضيتهم؟
وأخيراً عدم الاقتناع بالخطاب السياسي الأميريكي البريطاني هو الذي جعل بريان ويتكر يختم مقالته في الجارديان البريطانية التي كتبها عن الفشل الإعلامي الأمريكي بقوله:«والحقيقة أن الحرب الأمريكية ضد العراق جعلت من العلم الأمريكي رمزاً للقمع وهذا لا يعد فقط حماقة ولكن نوعاً من عدم النضج السياسي من جانب تلك الإدارة التي تحكم أمريكا في واشنطن».
|