على مدى أكثر من ربع قرن وبعبع المنطقة «صدام» من خلال نظامه الدموي يرعب العرب، تارة يدخلهم معه في دائرة مغامراته، وأخرى يجعلهم من ضمن ضحاياه، فالغني من العرب الذي يخشاه يكسب رضاه بالأموال، أما الفقير الذي يخشاه فيكسب رضاه باطلاق يد مخابراته لتوجيه تعاطف الرأي العام في بلده ليصبح بوقاً لصدام.
ولأكثر من ربع قرن ظل صدام ونظامه سبباً في اهدار أموال اخوانه عرب الخليج، اما على حرب افتعلها مع إيران مدعياً انه يذود عن حمى الخليج العربي، او بغزوه شقيقة بلاده الكويت جعل اخوانه عرب الخليج يستأجرون جيوش الغرب بأموالهم لمساعدة الكويت في اخراجه منها بعدما اعلن العرب عجزهم واكتفاءهم ببيانات الادانة.
تم طرد صدام من الكويت بعد عصف معركة الصحراء عليه، والعالم من أقصاها إلى اقصاه يدرك انه منهزم وانه فقد 25 ألف قتيل من شعبه وألف مليار من أمواله، ولكنه بعناده وغطرسته ظل لأكثر من عشر سنوات يوهم كل العرب والعالم انها كانت أم المعارك التي انتصر فيها على جيوش التحالف!
لقد استمر صدام يحكم شعبه بالحديد والنار ويفتك بهم، ويروج ألاعيبه في العالم العربي ويصرف الأموال سرا على إعلام بعض دولهم، فتارة بترهيبهم بالمؤامرات عليهم، وأخرى بالترغيب وشراء الضمائر بالأموال التي يحصل عليها من برنامج الغذاء والدواء التي تبلغ آلاف المليارات سنويا بينما الآلاف من أطفال العراق يموتون جوعاً، وسكان أرياف العراق يعيشون بيئة القرن التاسع عشر بؤساً وفقراً، يستخدمون الحمير في تنقلاتهم كما أظهرت يوم أمس شاشات التلفزيون، في بلاد تحتضن خمس احتياط البترول في العالم.
ودارت الدوائر على نظام صدام، فبالرغم من أن أغلب العرب اتفقوا وان لم يكن علناً على كرهه، إلا انهم لم يقووا على تخليص شعبه بالقوة من ظلمه، ولم يضمنوا لجيرانه من غدره، فكان من قدرة الله ان يسلط عليه آخرين، ان يأتيه الخطر من حيث لا يحتسب، فيقرر بوش وبلير زعيما أكبر دولتين غربيتين فيما يسمى بدول التحالف قطع دابر نظامه الدموي، سواء كانت دوافعهما وجيهة أو غير وجيهة وبصرف النظر عن نواياهما.
استشاط غضباً المعجبون بنظام صدام، وكذا المغيبون فكرياً عنه، والخائفون من ردة فعل المنتفعين منه مادياً ، كلهم على حد سواء، فزعم ناس منهم لغيرة دينية انه «الغزو الصليبي لديار الإسلام» ولم يدركوا ان «بابا» الصليبيين في الفاتيكان، وكنائس بعض دول العالم، وكذا دولاً صليبية كفرنسا وروسيا والمانيا وغيرها رفضوا مبدأ هذا الغزو جملة وتفصيلا، وزعم أناس آخرون من المزايدين التقليديين من مرتزقة الفضائيات العربية ممن سئمهم المشاهد العربي، انه «احتلال لأرض العراق ونهب لخبرات العراق»، بل وتوعدوا بالويل والثبور عبر منابر القنوات العربية، زاعمين ان هذا الغزو «تنفيذاً لاستراتيجية أمريكا لتغيير مخطط المنطقة والاجهاز بعد ذلك على أنظمة الحكم فيها»، منذرين بأن غزو العراق مقدمة لتنفيذ استراتيجية مؤسسة «رائد» التي روجها الصهاينة ولأفكار ريتشارد بيرل المطرود الآن، فصدقهم البعض واستهجنهم البعض الآخر، ولكنهم لسطحية فكرهم لم يدركوا ان الصهيونية العالمية هي التي سربت مثل هذه السيناريوهات لإرعاب العرب، وليروجها مثل هؤلاء الواهمين على الغلابة من عامة العرب.
مجريات الأحداث وتبؤء المزايدين «الفوارس» أصحاب الظاهرة الصوتية العربية وغيرهم لمنابر بعض الفضائيات العربية الاخبارية لم تدخل الرعب والخوف في عامة الشارع العربي فحسب بل وافقت هوى في نفس صدام المعجب أصلاً بنفسه «ونفخته» غطرسة وجهلاً، فازداد عندا، وحسب لفرط جهله ان غالبية وقوف العرب والمسلمين وبعض شعوب العالم انما هو وقوف مع نظامه وسياسته حتى انه صار يصدر فتاوى جهادية هو الآخر.اختلطت الأوراق على جموع من أبناء العرب والإسلام ومحبي السلام في العالم فتدافعت المظاهرة في ميادين وشوارع بعض مدن العالم، مثل لندن وباريس وروما وجاكرتا وباكستان وأخرى، خليط من معارضين لمبدأ الحرب أو مؤيدين لها وغيورين على الإسلام، الجميع يرفع لافتات بطريقته بل ويندس بينهم من يرفع صورة صدام بحجم أكبر من صورة رئيس دولة المقر كما حدث في صنعاء، أو رفع العشرات من صور صدام دون صورة واحد لرئيس دولة المقر كما حدث في مدن لبنانية، انه اختلاط في المفاهيم تحركه المشاعر ويؤدي الإعلام الموجه فيه أدواره.تسارعت الأحداث وازداد صدام اعجاباً بنفسه واغتر بفكر الارجاف وسيناريوهات تخويف خصومه من غضبه.. وعندما ضيق بوش رئيس امريكا الخناق عليه محددا مهلة الأربع والعشرين ساعة لترك الحكم، رد عليه ساخراً بخطبة «عصماء» يجانبها أدب الحوار انطلقت من قناة العراق الفضائية صدقته الفضائيات العربية وباتت ترددها على مدار يومين فضائيات الجزيرة والفضائية العربية والفضائية المصرية الاخبارية، وأبوظبي، ودبي وجميع الفضائيات اللبنانية الست، مطلقاً عبارته الشهيرة «سنجعل مغول العصر ينتحرون على أسوار بغداد».
اجتمع كبار العرب على مستوى وزراء الخارجية تحت مظلة الجامعة العربية في القاهرة في نقاش عاصف لتحقيق اجماع لموقف العرب من الحرب، لم يندهش العرب أو تفغر افواههم على محصلة الاجماع الذي أحرزه كبار العرب الذي كان «لا للحرب»، لقد كان الشعب العربي يدرك بحسه وبتجربته ان ما تمخض في هذه الظروف انما هو ذات محصلة «الاجتماعات التقليدية» التي تعودوا على سماعها التي ظلت تنهمر عليهم منذ تأسيس الجامعة العربية «قبل 54 عاماً تقريباً» بلا تفعيل يذكر، لقد باتت في ظن الشارع العربي قرارات «لا تعدو كونها حبراً على ورق فيما فكرهم في مفترق».
أي بمعنى آخر ظلت قضايا العرب المصيرية، بما فيهم قضيتهم الكبرى فلسطين حبيسة المنهجية «خلاف واختلاف والله الخلاف»، ففي هذا الخضم طار اليهود الصهاينة بقضية فلسطين وحقوق الفلسطينيين، أو كادوا، فأكل عرب لحم اخوانهم على حسها، كحادثة غزو الكويت، وعلى حسها قامت ثورات مدبرة وغير مدبرة في بعض البلاد العربية بدعوى خلاص الشعب من الظلم والفقر والجهل والمرض، ومع الحزمة تحرير فلسطين الجريحة، فراحت فلوس وثروات البلد ولم يتحقق هذا ولا ذاك بعد ، وسجل يا تاريخ في سجل العرب بمدادك الأسود.
اشرأبت أعناق العرب لترى ماذا سيقرر كبار العرب في القاهرة وهم يجتمعون في وقت وظرف تدك فيها جحافل جيوش التحالف أسوار البصرة، ثاني أكبر مدن العراق، ليخرج كل رجل من هؤلاء الكبار وقد شعر في قرارة نفسه بأنه انتصر لوجهة نظره، تاركاً وراءه قرار «نعترض على الحرب». إن أصحاب الفكر وذوي البصيرة العرب يدركون ان ليس لدى العرب ثمة قوة وقوى عربية من جيوش أو من نفوذ دولي قادر على صد جيوش وترسانة جهزها رئيسا أكبر دولتين غربيتين في العالم مباركين ومفوضين من برلمانيهما، بل أصحاب الفكر والبصيرة من المثقفين العرب يدركون بحسهم ان ايقاف العرب المنتجين لبترولهم، ضخ نفطهم نكالا بالغزاة لن يعطل مسيرة الحرب، ولن يجدي نفعاً في قياسات الحصار، فدول جيوش التحالف لا تستورد من بترول العرب إلا نسبا قليلة، فيما كل دولة من دول التحالف «في الواقع» تنتج معظم حاجتها من البترول وما ينقصها يمكن ان تشتريه من أسواق أخرى خارج الأوبك، ثم انه من باب المنطق كيف تطالب دولة عربية دولة أخرى تنتج البترول ان تضحي بلقمة شعبها لصالح حسابات حرب لا أحد يستطيع اعتراضها بل محسومة النصر والنتائج، بينما ان ذات الدولة الطالبة تتحفظ على ارسال جيشها في الدفاع عن اختها الدولة العربية الأخرى عندما دعت الحاجة كما حدث في عملية تحرير الكويت، ويزداد على ذلك كيف يطالب بعض العرب جعل البترول في المعارك على أرض العرب، فيما لا يطمئن بعضهم من نوايا البعض الآخر تجاههم.
إن أصحاب الفكر وذوي البصيرة العرب يدركون بحسهم أيضاً غوغائية الطرح لقفل قناة السويس أو غيرها من الممرات الدولية إنما هو وإن كان طرحاً عاطفياً ولكنه أجوف، وذلك ربما لسببين رئيسيين أولهما، ان هذه الممرات لئن كانت الدول العربية تجني دخول منها، إلا انها ممرات دولية لا تملك دولة في الأرض اقفالها، ولو حدث ان فعلت هذه الدولة المختصة ذلك، فإنها ستؤذن بحرب ضدها من دول العالم، أما السبب الثاني فإن وسيلة النقل في هذا العصر لم تعد حكراً على البواخر، فهناك الطائرات العملاقة تنقل الدبابات الثقيلة عندما تدعو الضرورة عبر الجو فما بالك لو كان أغذية أو مواد استهلاكية.
بالرغم من انها حرب اشعلها الوضع الذي حقنه أصلاً نظام صدام في منطقة الخليج وحزب البعث قبل ثلاثين سنة بسبب خليط من تراكمات داخلية ضد شعبه، أو سلوكيات سياسية خاطئة تعصب لها ناقدوها ولم يرشد أو يسترشد أو يستفيد من اخطائه، فلقد بتنا لا نملك سوى قلوبنا التي ترتجف عاطفة على حل اخوتنا في الدم والدين أبناء الشعب العراقي خوفاً على عرضهم ووحدة أرضهم وعدم تجزئة بلادهم إلى دويلات.
لذلك كله فقد كانت منيتنا، لو ان كبار العرب لم يصرفوا وقتهم الثمين في بحث اصدار قرار «لا للحرب» فهذه قرروها بالاجماع قبل عقدهم لهذا الاجتماع، وبدلاً من ذلك صرفه على بحث مسألة تحقيق اجماع عربي حول خطوات على الطبيعة تحقق تنسيق مع دول التحالف «الغازية» من أجل تخفيف مجريات هذه الحرب على فئات الشعب العراقي وعلى مقدراته وعلى بيئته وعلى ثرواته، وان يكون للجامعة العربية دور شراكة مع دول التحالف في مواجهة الارهاصات الاقتصادية والاجتماعية اللاحقة في المناطق السكنية العراقية المحررة، وان تكون الجامعة العربية بدولها طرفاً للمشاركة في إعمار العراق وإعادة الحياة لبيئته والدم في عروقه.
وأما انت يا صدام فقد قبل مغول العصر تحديك، فها هم ينتحرون على أسوار بغداد، فأطلق عليهم خيلك وأعمل فيهم سيوفك، وحفظ الله شعب العراق وأزال الغمة عنهم، والله الموفق.
* سفير المملكة العربية السعودية لدى دولة الكويت
|