يتأهب العالم لمشاهدة حدث مثير، فلأول مرة في التاريخ الحديث تستعد مدينة يصل عدد سكانها إلى ستة ملايين نسمة تستعد لمقاومة هجوم من جيش بري، والحقيقة أنه لا يمكن التنبؤ بنتيجة هذه المعركة، فالمدن تكره الجنود، وأحيانا تستقبلهم بالأحضان، ولكن في أغلب الأحيان تستقبلهم بالقنابل والانفجارات، ويكاد يكون دخول المدن المدافعة مستحيلا، ونظرا لأن الموت والتدمير المرتبطين بأي هجوم يمكن أن يكونا مرعبين، فإن الموقف الإنساني يدفعنا إلى أن نتمنى من صميم قلوبنا أن تختار السلطات العراقية الاستسلام أو أن يحدث عصيان مدني من جانب العراقيين للحكومة بهدف تجنيب بغداد معركة مدمرة، والحقيقة أنه في ضوء المعطيات الحالية فإن الأمل في حدوث أي منهما ضئيل للغاية، وعلى مدى الأسبوعين الماضيين شاهدت مئات الخرائط والرسوم والبيانات العسكرية والأشكال التوضيحية، كما شاهدت رجالاً مرهقين وشاهدت انفجارات الصواريخ والدبابات.
وكل هذه الأمور توضح كيف يمكن الانتصار في معركة مفتوحة، ولكن أي من هذه الأمور لا توضح لنا كيف سيمكن للقوات من الانتصار في معركة بغداد، لا يمكن الافتراض بأن هذه المعركة ستكون بسيطة، فالرئيس العراقي صدام حسين استعد لهذه المعركة وأعد مدينة بغداد لكي يظل فيها، ولكي تعلن القوات الأمريكية انتصارها في هذه الحرب يجب أن تحتل بغداد، وأنا أعلم تماما لماذا يتجنب العسكريون الأمريكيون الحديث عن معركة بغداد، فأي معركة في شوارع بغداد ستكون مروعة، والحقيقة أن أفضل جنود العالم تدريبا على حروب المدن هم الجنود البريطانيون ومع ذلك وقفوا عاجزين أمام مدينة البصرة المفترض أنها من المدن التي لا تحب صدام حسين، وهناك من يقول إن المدينة مضطرة للدفاع عن نفسها بسبب ضغوط القوات العراقية غير النظامية الموالية للرئيس العراقي صدام حسين، ولكن لا يحتاج دارسو هذه الاستراتيجية أكثر من العودة إلى تكتيكات أنتوني بيفور للدفاع عن مدينة ستالينجراد ضد الغزو الألماني خلال الحرب العالمية الثانية وهي المعركة التي انتهت بسقوط أكثر من مليون قتيل وانكسار الهجوم الألماني النازي، والعراقيون خصصوا فرقة كاملة للدفاع عن البصرة، واضطر البريطانيون إلى استخدام المدفعية بعيدة المدى والصواريخ على أمل أن يؤدي هذا إلى تشجيع السكان العراقيين على التمرد ضد القوات العراقية غير النظامية بصورة ما، ولكن الأمر يزداد سوءا في بغداد حيث ستواجه قوات التحالف هناك مدينة مصرة على المقاومة، وعلى قادة التحالف أن يتذكروا فشل نابيلون في موسكو وفشل هتلر في ستالينجراد وفشل الأمريكيين في مقديشيو وفشل الروس في جروزني، فالمدن المعادية تمتلك من الوسائل ما يجعل حياة القوات في خطر، فالمدن تختلف عن المناطق الريفية، فالمدن نادرا ما تقبل الاستسلام حتى لو كان ظهرها للحائط، ولم يتمكن زعماء الحرب في أفغانستان من دخول مدينة كابول إلا بعد خروج حركة طالبان منها، في الصحاري تحارب الجيوش ضد الجيوش، أما في المدن فإن الجيوش تحارب المدن، والعراقيون ليسوا أغبياء، وقد استمعوا إلى الاستراتيجيين الغربيين وهم يتحدثون عن حروب الصحراء، ويمكن أن تصبح الأمور أشد سوءا إذا ما تمكن صدام حسين من استدراج القوات الأمريكية إلى بغداد.
تقول القواعد العسكرية إن الهجوم على المدينة يحتاج إلى قوات مهاجمة تصل إلى عشرة أضعاف القوات المدافعة عنها، والحقيقة أن هذا القصف الجوي العنيف يؤدي إلى نتيجة عكسية وتزداد رغبة المواطنين في المقاومة والانتقام من القوات الانجلو أمريكية ، فقد كان رد فعل سكان بغداد مع القصف الجوي هو نفس رد فعل سكان أي مدينة على نفس الظروف على مدى التاريخ، فقد شعر السكان بالغضب من القوات الانجلو أمريكية ، وأصبح أبناء العائلات التي سقط بعض أفرادها ضحايا للقصف الأمريكية يطالبون بالثأر من هؤلاء الأمريكيين.أنا أعارض هذه الحرب ومع ذلك مستعد للاعتراف بأن القوات المشتركة تحقق انجازات عسكرية إذا كانت هذه الإنجازات تنطوي على رسالة إلى بغداد، تقول هذه الرسالة انه يمكن تحقيق السلام والرخاء لكل العراق، وبهذا يمكن أن يثور سكان بغداد ضد صدام حسين وقواته، ولكن محاولة تحقيق هذا الهدف من خلال الصدمة والرعب يعتبر غباء أعمى، فليس أمام القوات المشتركة أي بديل عن محاولة كسب قلوب وعقول العراقيين.
«التايمز» اللندنية
|