أثناء الحرب على العراق، تشهد فرنسا جدالا حادا بين الشخصيات السياسية، بالخصوص تلك التي وجدت في الموقف الفرنسي الأخير نوعا من أنواع «التراجع» عن مبدأ اللا حرب.. العديد من الأحزاب تريد من الرئيس الفرنسي ألا يصمت كما يفعل الآن، وألا يبدو كما لو كان يراجع أوراقه، بالخصوص ضمن جملته الأخيرة التي قال فيها إن «الأمريكيين ليسوا أعداءنا بأي شكل من الأشكال»، ربما التقهقر الذي شهدته البضائع الفرنسية في الولايات الأمريكية بدأ يظهر حجم الموقف الذي وقفه الرئيس الفرنسي، ومن خلفه أكثر من 77% من الفرنسيين في آخر استطلاع رأي، نسبة كبيرة يمكنها جلب شيء من العزاء إلى الرئيس شيراك، بالخصوص في حربه القادمة، والتي ستكون «ما بعد الحرب» لأن الحرب بلا شك لن تدوم الدهر كله، وستنتهي حتما آجلا أم عاجلا، والحال أن الكلام عن «ما بعد تلك الحرب» لا يبدو مغريا لجاك شيراك الذي يعرف جيدا أن الأمريكيين لن ينسوا موقفه منهم قبل، وأثناء، وبعد الحرب!
أثناء الحرب على العراق، فقد الفرنسيون الكثير من عاداتهم، 68% منهم يعترفون أنهم يتابعون الأخبار بانتظام، وأنهم لا يشعرون برغبة في متابعة شيء آخر غير الأخبار، من عدة محطات تلفزيونية سواء فرنسية أو أمريكية.. 31% اعترفوا أنهم يستغرقون ساعات أثناء العمل في مناقشة الحرب.. وأن 12% فقط يعملون بشكل طبيعي.. وأن 3% فقط لا يهتمون مطلقا بالسياسة وبالحرب على العراق تحديدا..
أثناء الحرب على العراق، يشتكي المدرسون من سلوك تلاميذهم.. ثمة حالة من العدوانية في التصرفات.. بعض المدرسين اعترفوا أنهم كلما دخلوا إلى الفصل وجدوا العبارة نفسها مكتوبة على السبورة «تسقط الحرب!» وأنهم اضطروا في العديد من الأحيان إلى تغيير الدرس للكلام عن الحرب، محاولين إقناع الأطفال أن النهاية ربما لن تكون سيئة كما يعتقدون.. لكن الأطفال يشعرون بالقرف لأنهم يرون أطفالاً مثلهم، يموتون في العراق تحت القصف الأمريكي البريطاني، مثلما رأوا أطفالاً يموتون برصاص الإسرائيليين في الأراضي المحتلة.. بعض المدارس الابتدائية صارت تستنجد بأطباء نفسانيين لشرح الأشياء بشكل مبسط لهم.. لكنهم يجدون في اليوم التالي نفس العبارة: «تسقط الحرب!»
أثناء الحرب على العراق، يتظاهر الشباب يوميا، حتى التلاميذ الذين يغادرون مدارسهم لا يتأخرون عن التجمع بأعداد كبيرة للتعبير عن رفضهم للحرب.. حدث أن أثناء المظاهرات التي شهدها شارع «سان بيير» بباريس، التحق بعض اليهود بالمتظاهرين، وإحدى اليهوديات رفعت العلم الإسرائيلي، فصاح فيها احد الشباب: «إن لم تخفي هذا العلم فسأحطم وجهك بقبضة يدي!» الفتاة اليهودية كتبت إلى إحدى الصحف قائلة: «الحرب الأمريكية على العراق كشفت نوايا الفرنسيين إزاء اليهود الذين يواجهون حقدا كبيرا في فرنسا!» هذا كلام قاله أيضا رئيس الجمعية اليهودية الفرنسية في بيان نشره بتاريخ 21 مارس الماضي، بأن «الفرنسيين يعتبرون اليهود سببا مباشرا في الكوارث التي تقع في العالم، وأن لا شيء يبرر عدوانية الفرنسيين إزاء اليهود في فرنسا»..
السؤال المهم: «لماذا يحاول اللوبي اليهودي أن يبدو ضحية في أوضاع لا يمكن فيها التعاطف مع الجلادين؟ طبعا سيغضب اليهود من كلامي مثلما غضبوا مني في المرة السابقة، ومثلما يغضبون من كل من يكتب رأيه فيهم بلا وصاية من أحد.. ولكن، يجب في النهاية أن نقول شيئا وأن نكتب الحقيقة وإن لم تعجب أحدا!
أثناء الحرب على العراق، تبدو فرنسا في حالة مدهشة من الحركة.. بين المتابعة والمظاهرة والكلام.. ثمة ربما بعد الحرب سيكتشف الفرنسيون أنهم نسوا أشياء كثيرة تهمهم، وأن نهاية الحرب هي بداية الحرب الاجتماعية بينهم، نقابيا وحزبيا.. فالحرب الظاهرية تخفي حربا باطنية أكبر، وأوسع، والثورة على شيء يحدث على بعد أميال طويلة يعني أن الثورة على ما يحدث داخليا ستكون أبشع.. وأن «الشعور بالغيظ من الأمريكيين ومن اليهود» ما هو في النهاية سوى الشجرة التي تغطي الغابة.. كل الغابة!
* «لوباريزيان» الفرنسية
|