الكاتب لا ينطلق من فراغ. بل ينطلق من حال واقعه المحيط به تدفعه روحاً ناقدة لمكامن الخلل الملموس..روحاً شكاكة في كل النقاط التي يمر عليها. ولا تبدو جلية بما فيه الكفاية، لذا فإن الانحناء للعاصفة التي تجتاح الساحة الشعبية وإطلاق حكم شمولي يصف حال الشعر الشعبي بأنه يعيش بأفضل حالٍ ممكن يبدو أنه حكم يفتقد للوعي والمصداقية والأمانة ويأخذ الأمور بفوضوية تعتمد على أكداس النصوص الشعبية التي يمكن لأي متبصر متسامح أن يغلق عليها أكياس «النفايات الأدبية» ويتركها خلف بوابة مدينة الشعر لتأخذها عربة الزمن إلى المنافي البعيدة.
إن من يتأمل حال الشعر الشعبي المعاش يدرك أن الكثير من الآراء والرؤى والحوارات الشعرية والتي غالباً ما يكتبها كتبة «الحاجات الشخصية» تبقى ثرثرة مستأجرة، لا يمكن الاعتداد بها حتى من قبل من كتبت بحقه ولا يستطيع من يملك استقلالية الأحكام أن يضعها كمؤثر يحرك مؤشر الرضا عن هذا الاسم أو ذاك.
لقد تم تعويم المقاييس الفنية في ساحة الشعر الشعبي بطريقة غريبة تبدو للمتأمل من خارج المعمعة كما لو كان الجهل المطبق قد فرض سيطرته الكامل على كل منابع توزيع الضوء وتحديد القيمة الفنية للنصوص الشعرية المتحركة على الساحة الشعبية بفوضوية مربكة للمتلقي الذي يبدو أنه أصيب بالدوار من تداخل المؤثرات التي تتحكم بذائقته فأصبح منقاداً بكل سهولة لتقبل الزيف الفاضح الذي ارتدى رداء الحقيقة فالنصوص الفاقدة لسمات الشعر الحقيقي أصبحت تحاط بهالات شديدة من الضوء، وقدمت للصفوف الأمامية أسماء لا تجيد سوى ثرثرة خارج محيط الجمل المفيدة.
في مشهد النخبوية الأدبية في الساحة ذاتها منحت ألقاباً شعرية وثقافية وفلسفية تثير الشفقة على المانح والممنوح، وليت الأمر توقف على المطبوعات التي اعتبرت أن الشعر الشعبي «حيوان بليد» يحمل إليها في نهاية كل شهر، حزماً من الأوراق النقدية ومكتسبات اعتبارية وشخصية ضيقة، وليت حالة الزيف الشامل توقفت على المطبوعات بل انتقل هذا الزيف المدمر في ظل غيبوبة الإدراك إلى المؤسسات التي يفترض فيها أن لا تسير على منهجية الفوضى التي كرستها المطبوعات، من حيث تقييم الشعر وتقديمه وتقييم شخوصه، مع يقيني الثابت باختلاف الأهداف فهذه المؤسسات لا تبحث عن نفس الأهداف التي تبحث عنها المطبوعات ولكنها وقعت ضحية مغالطات أدبية خطيرة حين اعتقدت بحسن نية أن هذا الشعر المذبوح على صخرة المصالح الضيقة هو الشعر الجدير بالاحترام والقادر على الحضور المقنع في المناسبات الهامة بينما الحقيقة غير ذلك تماماً.
إن من يتحرر من مخاوف الصدام مع الواقع لا يمكن أن يصف المرحلة التي يمر فيها الشعر الشعبي إلا بمرحلة الضياع التي تدل على أن الشعر الشعبي في مأزق خطير وأن الإبقاء على حالة التمدد الشامل الذي يعيشه وهو بهذه الحالة المدمرة سيؤثر على ثقافة الجيل وعلى ثوابت التربية وسينال من صورتنا لدى الآخر لذا فإننا وبشكل جماعي مطالبون بالبحث عن الخلاص من هذا المأزق الذي وضعنا فيه نتيجة تسامحنا الدائم وأعتقد أن الخلاص سيكون على يد دار الشعبي التي أعلن عنها قبل عامين ولكنها لم تر النور لأسباب أجهلها كما أن مهرجان الجنادرية وهو مشهد ثقافي مهم مطالب بأن يخرج من رتابة جدولة الحضور الشعري وذلك بإعادة هيكلة اللجنة المناط بها هذا الحضور و إعادة هيكلة نوعية هذا الحضور شكلاً ومضموناً كما أن الجهات المسؤولة عن منح الموافقات على إقامة الأمسيات يجب أن تعمل بإيجابية أكثر وأن ترفض إقامة كل أمسية خارج الجهات الرسمية كالأندية الأدبية والأندية الرياضية التي تعلو واجهاتها لوحات تشير على رسالتها الأدبية المعطلة ومنتديات الشعر الشعبي التابعة للجمعية السعودية للثقافة والفنون.
ويجب على وسائل الإعلام الرسمية «المرئية والمسموعة» أن تأخذ دورها في عملية الخلاص المنتظر وذلك بإلغاء البرامج التي تتناول هذا الشعر منذ سنوات طويلة ولم تقدم لنا إلا صورة سيئة للغاية عنه ودعم البرامج التي أدرجت في هذه الوسائل الإعلامية في الفترة الأخيرة ومنح فريق العمل بها حرية قادرة على الإبداع والتميز. عند ذلك سيتمكن المتلقي من الخروج من حالة الحيرة التي تلازمه بين القناعات الأدبية المنشودة والتي لا يمكن خداعها وبين واقع شعري غير مقنع بوضعه المزيف.
فرحان عبدالله الفرحان
|