المشكلة بين الولايات المتحدة الأمريكية، وبين دول عديدة على مساحة عريضة من هذه الأرض، في أقصى الشرق وفي جزر المحيطات، وفي الشرق الإسلامي بما فيه بلاد العرب، وحتى دول أوروبا المختلفة، وأيضاً دول أمريكا الجنوبية، ستظل قائمة لا يحسمها انتصار تحققه هنا وهناك، تحت مظلة عقيدة «القدر المتجلي» أو «توزيع البركات والحريات على الجميع».
والعجيب أنها -أي الولايات المتحدة- لا تصدق نفسها، فلم تكن في أي حال، وفي أي زمان من الأزمان، واثقة من أن الجميع قد اطمأنوا إليها وإلى سياستها، فهي تحرص على أن تكون قابضة على مصادر القوة. إنها «كالقابض على الجمر» أو «الواقف دوماً على أسنة الرماح» - على حد تعبير المؤرخ الراحل «أرنولد تونمبي» - وعلى نحو يذكرنا بأساطير وقصص الحروب في العصور الموغلة أو عصور ما قبل التاريخ، إنها تخوض في سبيل الهيمنة على مصادر القوة، الحروب خارج نطاقها الآمن بآلاف الأميال، حتى يظل الجميع وقاعون تحت سياسة «الترهيب والترغيب».
سياسة «الترهيب» المدفوعة بالقوة، أمضت سنوات في بنائها، منذ وصول الإنسان الأبيض، مجاهل الشمال الأمريكي، أواخر القرن السادس عشر، وحين تم بناء أول دعامة حقيقية لانفاذ سياسة «الترهيب» واعلان القوة سنة 1890، تم بناء أول اسطول بحري مكون من خمسة عشر مدمرة، وست بوارج، وفي ذهن المدعمين لبناء هذه القوة، أن هناك على بعد آلاف الأميال خلف المحيط في أوروبا، قوة تملك اسطولاً قوياً هي «ألمانيا» وقد تعلق في أذهان صانعي العقل الأمريكي، أن تكون صناعة هذا العقل، وتشكيل فكره، على قدر صناعة القوة ذاتها وجبروتها. وهكذا بدأت تتنامى فكرة «الأعلى» و«الأفضل» و«الأقوى» وليس بدعاً أن توحي. مخالب النسر الأمريكي، بمعنى من هذه المعاني، بل ان المطالبة المبكرة بأن تكون أمريكا «دولة حرب» هي التي أوحت فيما بعد أن تكون مخالب النسر الكاسر، شعاراً لدولة الحرب. ولابد من تغليف ذلك وتطريزه بخطاب ثقافي آخر، يضع تماثيل ترمز إلى الحرية، في كل الميادين وإعلاء نبرة كلمات مثل: «العناية الإلهية»، «انقاذ الحرية»، «نشر الحرية»، «حمل البركة إلى الجميع»، «واجب الشرف»، «إنقاذ الحرية والحضارة» منذ القرن التاسع عشر وحتى عصر «بوش» الذي يبرر تجريد غزوه للعراق بكلمات مثل: «تحرير شعب العراق» و«توزيع الثروة على الشعب العراقي». إن ذلك يمثل في الذهنية الأمريكية، الشق الثاني لفكرة «القدر المتجلي» التي تبدو واضحة في سياق مرافعة السناتور «ألبرت بيفردج» في وقت مبكر 1898: «نحن لا نستطيع أن نتهرب من مسؤولية وضعتها علينا «العناية الإلهية» لانقاذ الحرية والحضارة، ولذلك فإن العلم الأمريكي يجب أن يكون رمزاً لكل الجنس البشري».
ويبدو أن تلقين «المقاتلين» قد بدئ به منذ وقت مبكر وحتى الآن، فما أن دخلت أول أفواج القوات الأمريكية أول نقطة داخل الحدود العراقية، حتى بادر أحد الجنود بانزال العلم العراقي، ووضع بدلاً منه العلم الأمريكي، وبالرغم من محاولة تدارك هذا الأمر واعتباره خطأ غير مقصود، إلا أنه تعبير تلقائي عن هذا التلقين الذي بدأ منذ وقت مبكر كعقيدة راسخة، فهذا العمل يجب أن يكون رمزاً لكل الجنس البشري!!.
ولم تكن دولة «الشرف» و«المهمة المقدسة» صادقة في كل أهدافها، ففي كل الحروب التي جردتها خارج نطاقها الأمني، كانت تقترف أبشع الجرائم بحق الإنسانية في كل مكان وصلت إليه قواتها، فهي التي ابتدعت آلة الدمار والحرب في سلسلة من منجزات الصناعة الحربية، كان أبشعها القنبلة النووية، وأسلحة الدمار الجرثومية التي ثبت أنها استعملتها منذ وقت مبكر وبشكل بدائي ضد الهنود الحمر، حينما جلب المستوطنون الجدد هذه الأوبئة من أمراض كالجدري والتيفود والحصبة وغيرها من الأوبئة المستوطنة من أوبئة العالم القديم. «العكش ص 19» بل إنها تبيح لنفسها سلب جزر ودول من أهلها وادخالها ضمن «مجالها الحيوي» - وهذا التعبير هو المصطلح النازي الألماني وسنعود إليه لاحقاً - وحتى لا أتهم بالادعاء أو معادات «الشرف الأمريكي» كمرادف «لمعادات السامية» ولأن الشيوعية سقطت وليس لها من نصير الآن، فلا يمكن وصفي بانني من مساندي الشيوعية، فإنني أوثق هذا الكلام بالحقائق التاريخية الثابتة. والمثال هنا «جزر هاوي» ففي نص نقله «هيكل» عن المؤرخ «ستانلي كارنوف» يقول:
- سنة 1890 وتحت ضغوط المنادين بالتوسع والانتشار، أقر الكونجرس اعتمادات لبناء خمس عشرة مدمرة حديثة، وست بوارج «ذات قوة نيران غير مسبوقة» لكي يكون من ذلك اسطول بحري يوازي الأسطول الألماني - وأطلق ضباط البحرية يتزعمهم الأميرال «ستيفن لوس» دعوة تنادي بضرورة أن تتحول الولايات المتحدة إلى دول حرب، «لأن الحرب تجربة ليس لها نظير في تمتين وحدة الشعوب، وكشف صلابة معدنها، وتنشيط هممها، وتفتيح عقولها، وداعيها إلى حسن استغلال مواردها المادية والمعنوية».
«وبلغ من قوة النداء المطالب بالانتشار والتوسع أن بعض الداعين إليه أخذوا زمام الأمور في أيديهم وتصرفوا على مسؤوليتهم وباختلاق الفرص وتلفيقها، وكان من هؤلاء قنصل امريكا في جزر هاواي «جون ستيفنس» الذي حرض مجموعة من زراع القصب الكبار وعدداً من أصحاب الأموال وطائفة من قساوسة الكنيسة لكي يقوموا بانقلاب على ملكة الجزر الأسطورية «ليلى أوكولاني» وبالفعل جرى ترتيب الانقلاب على الملكة أثناء وجود السفينة الحربية الأمريكية الزائرة «بوسطن»، وكان بحارتها - الذين نزلوا إلى الشاطئ لتعزيز حركة الانقلاب، هم الذين أخذوا العلم الأمريكي من دار القنصلية الأمريكية ورفعوه على القصر الملكي في «هونولولو»، ثم كتب القنصل تلغرافاً إلى واشنطن يقول بالنص: «لقد استوت ثمرة الكمثرى في هاواي، وهذه ساعة قطفها». ثم عاد القنصل يعزز تلغرافه الأدبي بتقدير عملي للموقف يقول فيه: «إن واجبات الشرف» تحتم علينا أن نحتل هذه الجزر ملكاً خالصاً للولايات المتحدة، وإذا لم نفعل ذلك فإن الحكومة البريطانية سوف تفعله، خصوصاً وهي تدعي بحق قانوني عليها، باعتبار أن الكابتن الانجليزي «كوك» هو أول من وصل إلى هذه الجزر واكتشفها» (وجهات نظر: ص 7، مارس 2003).وإذا ما جال بذهن إنسان هذا العصر، الذي رصد وعيه وعايش فكرة، امتداد ذراع الامبراطورية الأمريكية، من محيطها عبر بحار واراضي العالم، على نحو ذلك «الخرتيت» في مسرحية كاتب اللامعقول الفرنسي «صموئيل بكيت» حيث يظهر الخرتيت في المدينة، وتمتد له خراطيم وأذرع تسرح في الشوارع، وتدخل المنازل عبر النوافذ وتمتد إلى الأدوار العليا، وتثير فزع الناس الآمنين في منازلهم، فيخرجون إلى الشوارع، ويقعون حتى تحت أعضاء جسم هذا الخرتيت التي تكبر وتكبر حتى تطبق على كل شيء، فإن المواطن العربي يتذكر من التاريخ مثل هذه المآسي التي أحدثتها ذراع هذا الخرتيت «في الفلبين، وفي اليابان، وفيتنام، وفي دول أمريكا اللاتينية الجنوبية» وما يشاهده الآن في العراق، وما شاهده في أفغانستان، وفي الصومال، وما يشاهده كل يوم في فلسطين، بدعم من «الة الحرب الأمريكي».
إن الأسباب المعلنة في الحرب على العرب، وعلى العراق الآن، وإن غلفها المعتدي بأسباب ولافتات معروفة، فإنها في أهم أسبابها جرت لتأصيل القوة والانفراد بها، والبحث عن مصادر تعزيزها والسيطرة على مصادرها، المختلفة، ولتأصيل هذا المعنى فإنه يؤخذ من تفاصيله عدة أمور أخرى تتفرع أثناء العمل لتحقيق هذا الهدف الأساسي، كأن يقال إن من مسببات الحرب المعلنة على العرب هي «حرب عقائدية» أو «حرب صراع الحضارات»، غير ذلك من المسميات التي تحتاج إلى الدقة العلمية. وان كانت الحروب الأمريكية خارج نطاقها تعطي هذا الانطباع، بل إنها في أحيان كثيرة تفسر على هذا التأسيس لهذه الفكرة، ما يجري أثناء تلك الحروب وما تفرزه، يحقق هذه المعاني، ولكنه لم يكن الهدف الأوحد أو الأساسي، لأن الأديان لا تموت بموت الناس، وان الحضارة منتج انساني تساهم فيه الأمم مجتمعة، وهي فعل إنساني كل يساهم فيه على قدر.
لكن هدف أمريكا، هذه القوة التي تنامت على مر عصور زاحفة، وهي تحاول أن «تحيط المحيط بالمحيط» - كما عبر شاعرهم الكبير «والت وتيمان» عام 1871م. تشعر أن مجالها الحيوي سيكون مهدداً - كما يعبر عن ذلك أحد الكتاب، بعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها - يقول «واتكين ديفز W.W.Watkin Davis» قبل نهاية عام 1947:
«الولايات المتحدة خاضت الحربين العالميتين لكي تحول دون وقوع مجالها الحيوي الذي يمتد من القطب شمالاً إلى المتوسط جنوباً فشواطئ الصين شرقاً تحت هيمنة غيرها، لأن من يهيمن على هذا المجال الحيوي يهيمن على العالم. لقد أحست أمريكا أن أمنها أصبح مهدداً عندما حاولت ألمانيا السيطرة على الجزء الغربي من هذا المجال الحيوي بينما حاولت اليابان السيطرة على جزئه الآخر».
ويعلق «منير العكش» في كتابه الهام «حق التضحية بالآخر، أمريكا والإبادات الجماعية» شارحاً التوافق بين اصطلاح «المجال الحيوي» الألماني، وبين عقيدة «القدر المتجلي» الأمريكية، التي كانت افرازاً لهواجس واطماع بناة أمريكا الأوائل على أشلاء الهنود، وهي استبدال شعب بشعب وثقافة بثقافة، تم انجازها في أبشع صور وأعمال ترتكب بحق الإنسان، ولا تزال مستمرة لم تتوقف:«إن اصطلاح Iebensraum يعني «المجال الحيوي» الذي تحتاج له الأمة الألمانية لأمن مواطنيها ولنمائها الطبيعي والاقتصادي والسياسي. والواقع أن «المجال الحيوي» ليس إلا الترجمة الألمانية لعقيدة «القدر المتجلي» الأمريكية، وعلى الرغم من اختلاف وتباعد البيئتين اللتين صدر عنهما كل من هذين الاصطلاحين فإنهما وجهان لعملة واحدة، وتجمع المؤمنين بهما قناعات وتصرفات وعواطف ومثاليات متشابهة تدل على وحدة القوى النابذة التي أطلقتهما، وهي فكرة الاختيار الإلهي والتفوق العرقي والثقافي والأخلاقي.برغم التباين في أساليب تطبيقهما فإن اصطلاحي «القدر المتجلي» الأمريكي و«المجال الحيوي» الألماني توأمان ولدا من رحم واحدة لا يفرق بينهما إلا التنافس على احتكار «الاختيار الإلهي» ان اسطورة مكيدة «اسرائيل» بأبيه الأعمى لاغتصاب هذا الاختيار من أخيه «عيسو» «الذي تزعم الاساطير انه جد العرق الأبيض» استحكمت بمعظم حروب الألماني والانكلوسكسون في القرن الماضي.كلا الاصطلاحين اعتمد بشكل أو بآخر فكرة النماء الطبيعي. فألمانيا النازية وأمريكا كلتاهما آمنت بالحاجة الحيوية لنماء الدولة، وبررت الغزو والتوسع انطلاقا من ذلك. كلتاهما ساوت بين البقاء وبين التوسع انطلاقاً من النظرية التطورية: البقاء للأقوى، «إن إصرار الأمريكيين على تجريد العرب من أي قوة لا يمكن فهمه إلا في هذا الاطار الذي حوكم من أجله توماس مورتون من قبل السلطات الاستعمارية الانجليزية لانه باع الأسلحة للهنود، (ص 143).ويعتبر أول توثيق وشرح لعقيدة «القدر المتجلي» marifest Destiny قد بدئ به في أربعينات القرن التاسع عشر كإفراز لمجموعة من الثقافات والموروثات التي تراكمت لتجسد أطماع «الأنجلو سكسون» وتميزهم بالقوة التي تدعم الإيمان بالتفرد عن غيرهم حتى صدقوا أنها «عناية إلهية» وفي هذا المفهوم، وضع «ألبرت وينبرج Albert Weinberg» كتابه بعنوان «القدر المتجلي» الذي اطلع عليه «منير العكش» وكتب عنه ما يلي:
«وكانت عقيدة القدر المتجلي Manifest Destiny التي سادت منذ أربعينيات القرن التاسع عشر قد أدت إلى بعض الجراحة التجميلية للمعنى الإسرائيلي لأمريكا، فالاصطلاح كما يعرفه ألبرت وينبرغ Albert Weinberg في كتاب بعنوان «Manifest Destiny» يعبر عن الثقة المطلقة بالنفس وبالطموحات التي أقرها القدر نفسه بآيات واضحة جلية، بدءاً بآية السفينة التي حملت الحجاج إلى بليموث وانتهاء بالتوسع غرب المسيسبي الذي رعته العناية الإلهية. ومن أبرز مبررات هذه العقيدة ما يسمى بنظرية «الجغرافيا الحيوية» التي تزعم بأن «المكان الجغرافي للدولة المتفوقة كائن حي ينمو باستمرار «ولا يموت طبعاً»، ونظرية «القضاء والقدر الجغرافي» أو الزعم بأن يد القضاء هي التي ترسم الحدود الجغرافية للأمم «لا تعترف الولايات المتحدة، كإسرائيل، إلى الآن بحدود جغرافية لها، وليس في دستورها اشارة إلى ذلك». ومنذ أن اطلق جون اوسوليفان هذا الاصطلاح في مقالة له بعنوان «التملك الحق» تحول «القدر المتجلي» إلى عقيدة سياسية مفادها أن هذا العالم كله «مجاهل» وأن قدر أمريكا «الأنجلو سكسونية» الذي لا ينازعها فيه أحد أن تتملك منه ما تشاء من ارض لأن ذلك حقها الطبيعي، ولأن إله الطبيعة والأمم هو الذي أورثها هذه الأرض، وجعلها - مثلما جعل ألمانيا النازية بعدها - كائناً حياً لا يتوقف عن النمو» (ص 133).
وحتى كتابة هذه السطور لا يعلم - إلا الله وحده - أين تمضي سفن وطائرات ودبابات «القضاء والقدر الجغرافي» التي تنتهك البلاد العربية، وتمحو جغرافيتها وتمثل بانسانها في أبشع صور للوحشية الفاشية التي تُقترف بحق المدنيين، في العراق، في غيبة من الوعي العربي المخدر، وذلة الهوان. المواطن العربي الأعزل، المعزول داخل حدوده، فقط هو الذي يجلد ذاته صباح مساء، وهو يرى صوراً تجلت في اخوة له في الدم والعرق والدين يمثل بهم. وتهان فيه انسانيتهم، ولا يستطيع التحرك. أمام جحافل الغزو، التي تتحرك، وتتحرك معها حدودها، متسلحة بزعمها أن الحدود للدولة المتفوقة، كائن حي ينمو ولا يموت، ينمو على حق استلاب حدود الأضعف، وعلى اشلاء هؤلاء الذين هانت عليهم أنفسهم، فتجرأ عليهم هذا الذي يؤمن بأن «مجاهل العالم» حق له يرثها كيفما يشاء، وبأي طريقة يراها.ولا يزال الحديث موصولاً، لنرى كيف استباحت عقيدة «القدر المتجلي» الأمريكية، انسانية الإنسان في بقاع من هذا العالم، في اليابان وفيتنام، وقبل ذلك في الأرض التي تنعم فيها بجبروت القوة، ليس عزاء لنا، وانما للتذكير بما اقترفته على أرضنا العربية، وما تقترفه الآن.
|