حلقات أعدها: حميد العنزي
في حلقة اليوم نستعرض ميثاق الدرعية الذي كان بين الإمام محمد بن سعود بن محمد بن مقرن والشيخ محمد بن عبد الوهاب وهذا الميثاق يعتبره المؤرخون الأساس الذي نشأت عليه الدولة السعودية.
كما نتطرق للمكانة العلمية التي احتلتها الدرعية لا سيما بعد قدوم الشيخ محمد بن عبد الوهاب إليها.
ميثاق الدرعية
عندما بدأت دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب تنتشر وتحارب البدع والخرافات التي كانت منتشرة في ذلك الوقت تعرضت الدعوة للمضايقات في محاولات قام بها البعض للتخلص من الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- وعندما شعر بذلك الشيخ قرر الارتحال من العيينة إلى الدرعية «ويفصل بينهما نحو عشرين كيلو متراً».
وكان معظم حكام المنطقة قد أوجسوا خيفة من احتضان هذه الدعوة وذلك خوفاً ممن قد يواجهونه لا سيما ان هناك الكثيرين ممن استحكمت في نفوسهم تلك المبتدعات والخرافات التي كان الشيخ محمد بن عبد الوهاب يحاربها.
في هذا الوقت كان الحاكم محمد بن سعود بن محمد بن مقرن بالدرعية واسع النفوذ وله مكانة لدى أهل الدرعية وهو حاكم مرهوب الجانب قوي الشكيمة، كما أن الدرعية مدينة حصينة وأمينة تتميز بشجاعة أهلها ويأمن لديهم الخائف ويجد أهلاً وموطناً.
ويعرف الحاكم وشعبه في هذه المنطقة بالسليقة والفطرة والذوق، إن الإسلام الذي جاء به محمد بن عبد الله سليماً من كل شائبة بريئاً من كل خرافة مطهراً من كل بدعة، ليس هو ما هم عليه من تعظيم القبور والطواف حولها والتوجه بالدعاء للأموات دون الله. وتعليق التمائم والتعاويذ والتعلق بالأشجار والأحجار والكهوف.. لا ليست هذه هي حقيقة الإسلام دين الصفاء والبساطة والتعلق بالله وحده واتباع ما جاء به رسوله وما جاء في كتابه وما عليه سلف هذه الأمة.
وهذا جعل الجو صالحاً جداً لاستقبال دعوة ابن عبد الوهاب الذي بدأ ينشرها في المنطقة ويدعو إلى اتباعها ففيها حقيقة الإسلام وفيها صدقه وصفاؤه وطهره ونوره.
وإذا كان الحكام الآخرون في المنطقة أوجسوا خيفة من احتضان هذه الدعوة واحسوا بما حدثتهم نفوسهم أن يعجزوا عن حمله أو يقووا على مواصلة السير مع إمام هذه الدعوة لأنهم سيواجهون هزات ليست سلطتهم أهلاً لتحميلها، وليست ارادتهم كفئاً لاحتوائها فهناك رجال سوء ورثوا هذه المبتدعات خلفاً عن سلف واستحكمت في نفوسهم ولهم اتباع واشياع ومريدون.
كانت هذه الأسباب وربما غيرها مما هو على شاكلتها هي التي قعدت بحكام المنطقة عن نصرة دعوة ابن عبد الوهاب وكان ما عليه محمد بن سعود وما عليه الدرعية مما سبق وصفه هو الذي رشحها لتحمل هذه الدعوة والتفاني في سبيلها، وما نعتقد أن محمد بن سعود وحده وان كان حاكماً مطاعاً - يستطيع أن ينزع عقيدة من نفوس شعب ويثبت عقيدة أخرى لولا أن هنالك استعداداً مسبقاً لهذا الأمر وقابلية وارهاصاً ولهذا فإن محمد بن سعود ومحمد بن عبد الوهاب لم يلقيا في سبيل اظهار هذه الدعوة في الدرعية من صد ولا رد. اضف إلى ذلك ما نقله بعض المؤرخين من أن عدداً من أهل الدرعية كان يتردد على حلقات الشيخ محمد بن عبد الوهاب في «العيينة» واشربت قلوبهم نور العقيدة السلفية السمحة وسرت في أوساط الدرعية وولجت على النساء في خدورهن حتى أن أول من أوصل خبر قدوم الشيخ الدرعية امرأة محمد بن سعود «موضي بنت أبو وطبان» باتفاق مع عدد من أعيان أهل الدرعية ومنهم رهط من آل سعود فيهم أخوه محمد بن سعود ثنيان ومشاري.
ولا شك أن محمد بن سعود عندما استقبل الشيخ محمد بن عبد الوهاب بالدرعية قد ضرب مثالاً للشجاعة ونصرة الحق فهو لم يكن يجهل تلك المخاوف التي ابداها ابن معمر عند اعتذاره من احتضان دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب لكن عوامل اخرى جعلت محمد بن سعود يحتضن دعوة الحق نوردها كما جاءت «بمجلة الفيصل»:
أولها: أن محمد بن سعود يحمل من قوة الارادة وبعد النظر والفراسة ما لم يكن لدى ابن معمر فمحمد بن سعود يدرك من واقع التاريخ ومن مكونات الأمم انها لا تقوم إلا على دعامتين اساسيتين أو أحداهما وهما العقيدة الدينية أو القومية القبلية «كما يقول ابن خلدون» يدرك هذا محمد بن سعود وبتجربته ومعرفته لمكونات الأمم وهذا ما لم يوفق له ابن معمر.
ثانيها: أن محمد بن سعود يدرك من حقيقة شعبه بالدرعية أنه يتشوق لواقع ديني بريء من كل شائبة وريبة ويدرك أن قبساً من دعوة ابن عبدالوهاب قد دخل الدرعية ولاقى رواجاً وقبولاً فسوف يكون له شعبه خير معين وخير أمين ينشر هذه الدعوة ويجاهد في سبيلها.
ثالثها: لم يكن محمد بن سعود يرضخ لسلطة خارجية يخافها ويرجوها كحال ابن معمر مع ابن عريعر حاكم الاحساء فابن سعود مستقل بحكمه ومستقل برأيه.
رابعها: وهو الأهم والأنفع والأنجع أنها دعوة في مرضاة الله وسبيله وقد وعد الله بنصر من نصره { )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}
{وّلّيّنصٍرّن اللَّهٍ مّن يّنصٍرٍهٍ}
{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}
خامسها: لقد استمع محمد بن سعود دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب فاستوعبها فهما وآمن بها عقيدة وأخذها على نفسه عهداً.. ومثل ذلك يصعب اقتلاعه والنكوص عنه.
على أساس هذه المبادئ والارهاصات قدم الشيخ محمد بن عبدالوهاب الدرعية فكان ما توقعه فيها وبها من أهلية لتحمل هذه الدعوة والجهاد في سبيلها والسير بها إلى المستوى اللائق بها وبهم..
بدأ الشيخ محمد بنشر دعوته على مستوى الدرعية وفي أوساطها فكان تحولاً في مجتمع الدرعية لا نظير له وكانت حلقات الذكر والتدريس وكانت حركة علمية وذهنية يعج بها مجتمع الدرعية لم تلبث أن تجاوزت حدودها وأريافها إلى البلدان الأخرى عن طريق الاقناع والجاذبية والواقعية.
عندها أدرك الحكام المجاورون وأدرك سدنة القبور وعباد الأموات من رجال الجهل أن هذا أمر له ما بعده وأن السلطة التي يتمتع بها الحكام مهددة والمعنوية التي يتمتع بها العلماء في طريقها إلى الاضمحلال فكان العداء السافر وكانت المقاومة اللسانية.. وكان الشيخ يقابل هذا بالحسنى وينشر دعوته بالرفق واللين انطلاقاً من منهج الإسلام في الدعوة ومن سبيل المصلحين قبله.
سلك هذه السبيل ما وجد إلى ذلك سبيلاً، وإذا تعذر نجاح هذه الطريقة وأعذر من هداية المدعوين استعمل سبيل الجهاد ما شهر السلاح في وجهه وناصبه خصومه العداء طريقة الإسلام ومنهجه في ذلك.
وأخذت هذه الدعوة في السيرورة لتغطية الجزيرة جميعاً ومنها إلى عموم اقطار الأرض يقوم لها أنصار وأعوان.
وقد كتب عن هذه الدعوة وصاحبها علماء أعلام من أمثال أحمد أمين، والزيات، والطنطاوي، وخزعل، والعطار، وغيرهم كثير.
فخلاصة دعوة ابن عبدالوهاب هي الرجوع بالمسلمين إلى ما كان عليه سلف هذه الأمة في صدر الإسلام عهد الخلفاء الراشدين رجوعاً صافياً نقياً من البدع والخرافات والأخذ بالنص الصريح والنقل الصحيح «صحيح المنقول لا يختلف مع صريح المعقول».
وكما ساء الحكام والعلماء الذين يلون الدرعية في أول عهد دعوة الشيخ ابن عبدالوهاب فتلاشى عداؤهم وبادوا، فكذلك ساء أمثالهم في أطراف الجزيرة العربية وخارجها فلقد هالهم سرعة انتشار هذه الدعوة وجاذبيتها وخافوها على سلطتهم ونفوذهم فناصبوها العداء وأعلنوا ضدها حرباً لا هوادة فيها.
ويذكر المؤرخ الأستاذ عبدالله بن خميس في كتابه الدرعية أن الدولة السعودية الأولى قامت بقيادة الإمام محمد بن سعود بن محمد بن مقرن بن مرخان بن إبراهيم بن موسى بن ربيعة بن مانع المولود بالدرعية عام 1100هـ تقريباً على ما جاء في كتاب الدرعية وتولى امارتها سنة 1139هـ وتوفي - رحمه الله - سنة 1179هـ، وقد حكم 40 سنة منها 20 سنة بعد خروج الشيخ محمد بن عبدالوهاب للدرعية، وهو أول من ناصر الدعوة السلفية.
وقد حدد المؤرخون التاريخ الذي تم فيه الاتفاق بين الإمام محمد بن سعود والشيخ محمد بن عبدالوهاب هو بداية قيام الدولة السعودية الأولى أي عام 1158هـ/1745م فلم تكن في ذلك الوقت في نجد حكومة رسمية عدا بعض الإمارات الصغيرة ومشايخ قبائل وأعيان بلدان، ومن هذه الإمارات قبل قيام الدولة السعودية الأولى:
- إمارة آل سعود في الدرعية.
- إمارة آل معمر في العيينة.
- إمارة دهام بن دواس في الرياض.
- إمارة بني خالد في الاحساء.
وكانت معركة الرياض أول معركة خاضها الإمام محمد بن سعود في سبيل نصرة الدعوة الاصلاحية واخضاع أهلها، وقد أرخ ابن بشر تلك المعركة بسنة 1159هـ/ 1746م واستمرت المعارك بين الدرعية مقر الدولة السعولة الأولى ودهام بن دواس بالرياض أكثر من ثلاث سنوات لنقض الرياض اتفاقها مع الدرعية، ومحاولة ابن دواس مهاجمة الدرعية، واستمر الحال كذلك حتى سنة 1187هـ/1773م حينما سار الإمام عبدالعزيز بن محمد بن سعود على رأس حملة كبيرة فهاجم الرياض واستولى عليها بعد سبع وعشرين سنة، كما يذكر ذلك ابن بشر.
وكان أول من استجاب للدعوة حريملاء سنة 1168هـ/1754م، ثم القويعية سنة 1169هـ/1755م، ثم الوشم وسدير وثادق والحوطة وعدد من مناطق الجزيرة.
وفي عام 1179هـ انتقلت الزعامة إلى الإمام عبدالعزيز بن محمد بن سعود بعد وفاة والده الإمام محمد بن سعود على ما ذكر ابن عيسى في تاريخه، والتف الناس حوله وأيدوه حيث كان معروفاً بالشجاعة والإقدام وكان من أشد أنصار الدعوة.
المكانة العلمية
وصلت الدرعية درجة عالية من الاهتمام بالعلم حيث أصبحت الجهة التي يقصدها الطلاب في رحلاتهم العلمية لما تمثله من مركز علمي مرموق لاسيما بعد جلوس الشيخ محمد بن عبدالوهاب - رحمه الله - في مسجده الذي كان يغص بطلاب العلم الذين حرصوا على النهل من ذلك النهر العلمي النقي الذي كان يمثله الشيخ العلامة المصحح محمد بن عبدالوهاب ويذكر ابن غنام وابن بشر أن الناس يطلبون العلم على الشيخ محمد وتلاميذه في أطراف النهار والليل ويحترفون في النهار لكسب قوتهم والاستعانة على مطالب الحياة.
ويذكر المؤرخ ابراهيم آل عبدالمحسن في «تذكرة أولي النهى والعرفان» أن الدرعية مر عليها زمان كان فيها أربعمائة عالم كلهم كانوا أهلاً للقضاء.
وحول هذه العبارة يقول الدكتور محمد بن سعد الشويعر «هذه المقولة تذكرني بمكانة مدينة القيروان حاضرة المغرب إبان ازدهارها بالحضارة الإسلامية، التي بلغت شأواً رفيعاً في العلم والمكانة، فقد روى محمد المرزوقي وزميله في كتابهما أبي الحسن الحصري نقلاً عن معالم الإيمان لابن ناجي: أن عبدالله بن غانم في آخر القرن الثاني الهجري، انصرف يوماً في الجامع الأعظم بقيروان بعد صلاة الجمعة، فدخل عليه بعض أصحابه، فسأله ابن غانم، هل حضرت الجامع؟ قال: نعم.. قال ابن غانم: كيف رأيت؟ قال: رأيت - أصلحك الله - به سبعين قلنسوة تصلح للقضاء وثلثمائة قلنسوة فقيه».
كما ذكر ابن بشر أن مجالس الحكام من آل سعود ما هي إلا مجالس علم، ومدارس معرفة، نموذج ذلك، ما قاله عن الإمام سعود بن عبدالعزيز والإمام والده عبدالعزيز بن محمد، وحبهما للعلم فعن الأخير قال: كان يمر به الصبيان إذا خرجوا من مدارسهم، فيعطي جوائز جزيلة لأحسنهم خطاً، وأجودهم عبارة، وقد تحدث عن الثاني وحبه للعلم اهتمام آل سعود بالتشجيع عليه فابنه سعود ابن عبدالعزيز قد طلب العلم على الشيخ محمد بن عبدالوهاب عدة سنين، وكان اية في العلم، ومجلسه مجلس ذكر وعلم ولذا كان من عادة الحكام من آل سعود، ويمثل حالتهم الإمام سعود بن عبدالعزيز، الذي هو الثالث في الدولة السعودية من الحكام، إذ كان يجلس للناس في الدرعية جلسات علمية للدرس والمذاكرة بعد طلوع الشمس فترة الصيف في السوق التجاري العام وأمامه خلق لا يحصي عدده إلا الله، وإن كان في الشتاء فعند الدكاكين الغربية، ويجلس في حلقة العلم والفتوى التي يتصدرها كبار المشايخ، وبعد المغرب يجتمع الناس عنده للدرس داخل القصر في سطح المكان الذي يجلس فيه لهم الظهر، ويبدأ القارئ في صحيح البخاري، أو في أحد كتب التفسير كابن كثير، والطبري، ثم يشرع سعود يتكلم على تلك القراءات، ويحقق كلام العلماء المفسرين، وعن يمينه
***
تنويه
ورد في الحلقة الأولى ضمن أسماء من تولوا إمارة الدرعية اسم عبدالعزيز بن سعد بن مدعج والصحيح أنه عبدالعزيز بن سعد بن مدعوج. لذا لزم التنويه والاعتذار عن هذا الخطأ غير المقصود.
|