منذ نكبة العرب في عام 1948 عبر مكائد دولية كانت تُحاك لهم ولا تزال مستمرة حتى يومنا هذا، يظل العمل الفدائي العربي الفلسطيني، هو الأمل الذي تنعقد حوله كل آمال الشعوب العربية والفلسطينية، لتحقيق حلم الآباء والأمهات من الثكالى الذين فقدوا أبناءهم تضحية للوطن الذي نُهب، وأزهقت أرواح أبنائهم على ثراه. وحلم الآباء والأمهات وأبنائهم، الذين يكافحون لاسترداد وطنهم.
ليس هذا نشيداً رومانسياً، وصياغة أدبية حالمة، ولكنه صياغة لواقع يعيشه أبناء فلسطين، واعلاء لصوت، تتكالب عدة قوى ظالمة ومتجبرة لإخماده، وإدماجه في صياغات مُخدرة، تُمسك بيد وعاء اللبن والعسل، وباليد الأخرى السم القاتل، تحول دون استرداد هذا الشعب لوطنه الذي سُلب منه عبر متتاليات من المؤامرات الدولية، وتهاون عربي خضع لانتكاسات تاريخية منذ بداية القرن الماضي، جعلت أوطان البلاد العربية مجرد أشباح على الخريطة الجغرافية في الأطلس الجغرافي لدول العالم. لقد قرر الغرب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، أن البلاد العربية يجب ألا تكون حائزة على القوة التي تدافع بها عن نفسها. وألا يكون لديها قوة ردع، ولن يُسمح لها بإنتاج أي نوع من مصادر هذه القوة. لأن مهمة الدفاع عنهم ستكون وفق ما تراه هذه القوى، ووفق المتغيرات التي رسمتها على الخريطة. إنها وصاية الغالب على المغلوب، وحيازة المنتصر على المهزوم.
العمل الفدائي الفلسطيني، الذي تخلق من رحم الهزيمة، وفقدان الوطن لا يموت، ولا يجب له أن يموت، فليس بيد أي صياغات سياسية أن تفعل به ما تشاء. هذا العمل الفدائي الذي تطور مداه منذ عام 1948، حتى عام 1965 حينما أصبح له كياناته السياسية المنظمة له، هو الذي يُمسك في يديه بالحل، وبعث الدولة الفلسطينية. من جور القهر تتخلق العزائم، ومن هيمنة الاستعمار ينبعث التحرير.
ليست هذه دعوة معلنة، للنفخ في نار «الإرهاب» أو «العنف» كما تُفضل وسائل الإعلام الغربي والإسرائيلي، تسمية العمل الفدائي الفلسطيني، بهذا الاسم، لأن من يدافع عن أرضه وحقوق أبنائه، واسترداد هذه الحقوق، لا يمكن أن يوصف إلا بأنه يكافح في سبيل تحرير وطنه. فمثلا لم تذكر وسائل هذا الإعلام الغربي والأمريكي منها، أن العمل الفدائي انتقل لتفعيل عملياته في واشنطن أو في باريس، أو مدريد، أو في أي بلد عربي حتى ضد أهداف غربية، لقد ترشد العمل الفدائي، منذ انتقلت آلياته من لبنان والاردن، وحصر أعمال المقاومة داخل وطنه. بل إن اسرائيل واجهزتها هي التي تلاحق رموز المقاومة الفلسطينية في كل مكان، خارج حدود المقاومة.
هذه مقدمة ممهدة للنظر فيما يعرف باسم «خارطة الطريق» كإطار سياسي للبحث عن آفاق لإيجاد سلام بين الفلسطينيين واسرائيل وبين العرب واسرائيل. إن المدقق في تفاصيل هذه الخطة. سيجدها مجرد تمنيات وخطاب إنشائي، لا تنتمي إلى أبسط أساليب الإنشاء في القانون الدولي. ولكونها صناعة إنشائية أمريكية، فذلك أهم أسباب ضعفها القانوني، فالولايات المتحدة الأمريكية، راع رسمي وحليف غير محايد للدولة المغتصبة اسرائيل، وداعم أساسي لعدوانها على الشعب الفلسطيني، وعلى البلاد العربية، دعمت هذا الاحتلال، ودعمت جميع اعتداءات هذا الكيان على البلاد العربية، ولا يصح من الناحية القانونية الدولية أن تكون وسيطا بين الفلسطينيين واسرائيل، بنفس الطريقة التي لا يمكن أن تكون مصر أو أي دولة عربية وسيطاً بين الفلسطينيين واسرائيل لأن الفلسطينيين والعرب أصحاب قضية واحدة، أو هكذا يجب أن يُنظر إلى ذلك.
ومع ذلك فقد تبنت الولايات المتحدة الأمريكية، إعلان «خارطة الطريق» كمشروع سلام أمريكي، واقترحت لذلك اللجنة الرباعية الدولية، التي تضم الأمم المتحدة، وروسيا، والاتحاد الأوروبي، إضافة إلى أمريكا نفسها لتضمن لها غطاء دولياً، ويعود تاريخها الى يوم إعلانها في السابع عشر من سبتمبر 2002 أي في الفترة التي كانت الولايات المتحدة، تمهد لغزو العراق. هذا الغزو الذي تم بعد خمسة أشهر. خلال تلك المدة أصبحت أهمية هذه «الخارطة» الخطة نائمة أو مخدرة، لأن هناك ما هو أهم، وهو ما سوف يُشرق بتسيد أمريكي، أو ما يمكن تسميته «الحقبة الأمريكية» على مستوى العالم.
وخلال تلك الفترة، فترة الإعداد للغزو الأمريكي للمنطقة، وما بعد إتمام الغزو، وحتى الآن. أتاح كل ذلك لحكومة الحرب الاسرائيلية الشارونية، أن تمضي أكثر في إزالة قرى فلسطينية بكاملها، وهدم المنازل وتدميرها على سكانها.
وقد قبلت السلطة الفلسطينية الخطة، بعد ضغوط دولية وعربية في أوائل نوفمبر 2002. فيما تراوح الموقف الاسرائيلي بين قابل لهذه الخطة على مضض ومعارض لها لكن هذا القبول لم يتم وضعه موضع التنفيذ الفعلي كما تشير بنود هذه الخطة التي تم تعديلها في الرابع عشر من نوفمبر 2002م. وبفعل الغزو الأمريكي للعراق وكنتيجة عملية لهذا الغزو فقد تم تعطيل معظم الجداول الزمنية لهذه الخطة، ففي حين تشير الخطة في «المرحلة الأولى» إلى أنه من الآن (نوفمبر 2002) وحتى مايو 2003 يتم إنهاء الأعمال الفدائية والعنف (تسميها الخطة «الإرهاب والعنف») ولا أدري هل المطلوب من الفلسطينيين وحدهم إنهاء مقاومة الاحتلال الذي تصفه الخطة «إرهاباً» العبارة مطلقة لم تشر إلى قوات الاحتلال بشيء، لا يزال الموقف كما هو قمع اسرائيلي ومقاومة فلسطينية ولم يتم «إعادة الحياة الفلسطينية إلى طبيعتها» والحد الأدنى الذي تطالب به الخطة، هو الانسحاب الإسرائيلي من المناطق التي أعادت احتلالها بعد 28 يوليو 2000، تمهيداً لانتشار القوات الأمنية الفلسطينية في تلك المناطق، وهو ما لم يتحقق حتى الآن، ولا يبدو أن اسرائيل ستفعل ذلك تحت أي مبررات تسوقها، وتشير الخطة إلى اقتناص لحظة عملية صياغة دستور الدولة الفلسطينية، وهي المعضلة التي سوف تستغلها إسرائيل ومن ورائها أمريكا لملاحظة وتدقيق بنود هذا الدستور، وتشير الخطة الى «رئيس وزراء انتقالي» ذي صلاحيات بينما لا تتحدث من قريب أو بعيد عن رئيس الدولة الفلسطينية، وهو البند الذي تُضمره التوجهات الأمريكية المتوافقة مع المطالب الاسرائيلية، بإلغائه أو بجعله منصباً فخرياً على غرار منصب «الرئيس الاسرائيلي» والهدف الأساسي من ذلك هو القضاء بهدف أساسي على اسم «ياسر عرفات» بما يحمله من زخم تاريخي للمقاومة الفلسطينية، ورمزاً باعثا على المقاومة التي أسس أول قوافلها، وتكمن أهمية الرئيس عرفات، أنه ذلك الرمز الذي لا تختلف عليه كل منظمات المقاومة الفلسطينية، وهذا أمر بحد ذاته، يجعل مسألة إنهاء هذا الرمز، أمراً حيوياً ومهماً بالنسبة لدولة الاحتلال وأمريكا الراعي الرسمي لهذا الاحتلال، لأن ذلك سوف يفتح المجال أمام تعيين رئيس وزراء، ربما لا يمثل كافة القوى الفلسطينية، ويجعل أمر هذه الوزارة الحالمة في حالة عدم ثبات سياسي.
وأمام هذه المعضلة، كان أولى بالسلطة الفلسطينية وفصائل المقاومة، أن تُسمي «ياسر عرفات» رئيساً للوزراء، وأن تبحث عن شخص تخلع عليه منصب رئيس الدولة، لكن هذا الاجراء لو تم سوف يكشف النوايا المبيتة ضد شخص ياسر عرفات شخصياً. وتشير الخطة في المرحلة الثانية (يونيو 2003) على خيار «إنشاء دولة فلسطينية بحدود مؤقتة» بعد أن يكون الدستور الفلسطيني قد اكتمل!! وذلك «كمحطة على الطريق نحو الحل الدائم» ويبدو أن شهر يونيو سيحل ولم يتم اعلان الدستور، وبالتالي سوف لن يتم إنشاء الدولة، حتى بانتهاء عام 2003، وهو الرهان الذي أعلنه «نتنياهو» وزير خارجية إسرائيل بعد توليه مباشرة مهام منصبه كوزير للخارجية حيث قال: «آرائي واضحة، ولكن يمكن أن أعدكم بشيء واحد، أنه بانتهاء عام 2003 لن تقام هنا دولة إرهاب لمنظمة التحرير الفلسطينية».
وتنص «المرحلة الثالثة 2004-2005» على تفعيل اتفاق نهائي لإنهاء الصراع الفلسطيني الاسرائيلي، وذلك بعد أن يكون قد تم تفعيل جميع نصوص الخطة، عبر إقامة مؤتمر دولي في بداية 2004 وبإقامة «حدود مؤقتة» ويتم الحل النهائي الدائم عام 2005 (بما يشمل الحدود، القدس، اللاجئين، المستوطنات، ودعم التقدم نحو تسوية شاملة في الشرق الأوسط بين اسرائيل ولبنان، واسرائيل وسورية، يتم التوصل إليها في أسرع وقت ممكن).
وتشير المرحلة الثالثة إلى أن مسألة إنهاء الصراع الفلسطيني الاسرائيلي في العام 2005 يتم من خلال تسوية متفق عليها «عبر التفاوض بين الأطراف على أساس قرارات مجلس الأمن 242، 338، 1398 التي تنهي الاحتلال الذي بدأ عام 1967 (تشير الخطة إلى عبارة «حل واقعي» بينما يطالب الاتحاد الأوروبي بإضافة كلمة «متفق» بدلا من واقعي).
وفيما يتعلق «بالقدس» فإن الخطة تشير الى عبارة «اتخاذ قرار متفاوض عليه حول وضع القدس، يأخذ بعين الاعتبار اهتمامات كلا الطرفين السياسية والدينية، ويحمي المصالح الدينية لليهود والمسيحيين والمسلمين في العالم». وأخيراً تشير «المرحلة الثالثة» إلى أنه على الدول العربية أن تقبل بتطبيع العلاقات مع اسرائيل والأمن لكافة دول المنطقة في إطار سلام عربي اسرائيلي شامل».
إن مثلي بعد هذا الاستعراض، سوف يشعر بالإحباط كما أن القارىء الكريم الذي قد أصابه الاعياء يشعر بأن تلك الخطة المسماة «بخطة الطريق» لا تعدو عن كونها إملاء وصياغة لتقرير إنشائي، أبعد ما يكون من مشاريع الاتفاقيات الدولية، التي تحتكم إلى أبسط عوامل وقواعد القانون الدولي الدستوري الذي يتعلمه طلابنا في مقاعد الدراسة الجامعية.
يُخيل لي أنه حينما طُلب إلى كاتبها كتابتها كان ذهنه موتوراً ومشغولاً بما هو أهم، وفي ظني أن الذهنية الأمريكية، كانت تريد طرح ورقة ما على «طاولة اللعب»، إذ هناك ورقات أهم باتجاه مستودع الطاقة والتحكم، في احكام مثلت السيادة الإستراتيجية على الخارطة الدولية الأهم. وهذه الورقة لم تكن سوى ورقة يلهو بها بقية اللاعبين إلى أن ينتهي حسم اللعبة الاساسية. وبعد ذلك لن يكون هناك ما يدعو إلى أهمية هذه الورقة التي حسمت أمرها مستجدات سوف تُقرر أهميتها.
إن هذه الخطة تتجاهل أهم أسباب نفاذها القانوني، وهو إقامة الدولة الفلسطينية أولاً، التي يجب الاعتراف بها دولياً، والتي تقوم بالتفاوض حول بنودها. وبدلاً من ذلك فإنها تفترض أن يكون الطرف المقابل لهيمنة قوات الاحتلال الإسرائيلي، مجرد كيان إداري محلي، يشابه مناصب البلديات المحلية. حتى وإن أصبح اسم رئيس تلك البلديات «رئيس وزراء».
أثناء الانتهاء من كتابة هذا الموضوع (الجمعة 22 من الشهر الجاري) زفّ الرئيس الأمريكي الخبر، أن رئيس الوزراء الاسرائيلي، أعلن موافقته على قبول «خطة الطريق»، كما تولَّى وزير الخارجية الأمريكي، في إعلان رسمي تطمين الجانب الإسرائيلي إلى أن مخاوفه من تطبيق بنود هذه الخطة. سوف يتم معالجتها. هذه المخاوف تتعلق بعودة اللاجئين إلى ديارهم، وموضوع المستوطنات التي تفرض على اسرائيل تفكيكها، حتى تلك التي اقامتها (منذ شهر مارس 2001) التي تشير إليها الخطة دونما الإشارة إلى سلسلة المستوطنات التي أقامتها منذ احتلال 1967. أما موضوع «القدس» فهو في نظر حكومة الاحتلال الاسرائيلي يقع تحت طائلة «يبقى الوضع على ما هو عليه». وهكذا، يمكن تفسير «خطة الطريق» هذه بأنها الإعلان عن استمرار الطريق نحو العمل الفدائي الفلسطيني، الذي سيرسم طريق تحقيق المصير بنفسه.
لن يكون على هذه الأرض الفلسطينية سلام إلا بتسليم مفاتيح «القدس» لأبنائها، وجلاء المحتلين إلى حدود ما قبل عام 1967 وعودة اللاجئين بنفس الطريقة التي بموجبها تم إجبار كل ما هو يهودي إلى العودة إلى الاراضي الفلسطينية، وأن يتزامن إعمار كل ما هدمته آلة دمار الاحتلال للمدن والقرى الفلسطينية وبنيتها الأساسية وتأهيل هؤلاء العائدين إلى موطنهم بوسائل الحياة الآمنة.
هذه هي بعض ملامح خطة الطريق الأمريكية وتفاصيلها وبنودها إنها مجرد خارطة على قارعة الطريق.
|