من الملاحظ في هذه الأوقات بخاصة وما سبقها بعامة أنه عند حدوث نازلة تمس الإسلام وأهله أو عند الكلام عن توجهات منحرفة أو سلوكيات مخالفة أو غيرها.
ما أن تثار أو تحدث تلك الأمور حتى نسمع أو نقرأ ما تعودنا عليه دائما من أناس يعلقون نشوء تلك المنكرات تارة: بغياب المرجعة العلمية - كما يسميها بعضهم.
وتارة لتقصير العلماء في واجبهم.. إلى غير ذلك، وهي شنشنة نعرفها من أخزم.
وهذا الأمر لو كان عرضا مرة أو مرتين لهان الأمر - على شنيع ما فيه أما وقد كثر فشر مستطير - ولكن كما قيل:
ولو كان سهماً واحداً لاتقيته
ولكنه سهم وثان وثالث
لما تكاثر النقد وتواطأت العبارات مكتوبة ومسموعة في تحميل العلماء كل خلل يتعلق بالدين، لم يكن بد من براءة الإنسان لذمته، فلا خير في السكوت عن القدح في مسلم بريء، فكيف بطالب علم بريء؟ فكيف إذا كان اللمز والقدح في الثلة المقدمة في علوم الشريعة من كبار العلماء؟
بعد هذا أحب أن أذكر بأمور من باب التأكيد لا من باب التأسيس.
وهو أن مما لا شك فيه ولا ريب أن واجب العلماء من أعظم الواجبات الملقاة على عواتق أصحاب المسؤولية، ومسؤوليتهم من أعظم المسؤوليات، بل قد تكون أعظم مسؤولية، ذلكم لأن نفعهم متعد إلى الناس جميعاً، كما أن تقصيرهم متعد إلى الناس جميعاً.
وكيف لا يكون ذلك وهم الذين تعبدنا الله تعالى بسؤالهم وبالرجوع إليهم: {فّاسًأّّلٍوا أّّهًلّ الذٌَكًرٌ إن كٍنتٍمً لا تّعًلّمٍونّ}.
والكلام في منزلتهم ومعرفة حقهم مشهور معلوم، بل قد صنفت مصنفات مستقلة في شأن العلماء وعظيم مكانتهم وشريف منزلتهم.
ومن ذلك على سبيل المثال: «كتاب (أخلاق العلماء) للإمام الأجري رحمه الله تعالى.
وعوداً على بدء يقال: إننا لا ندعي في مشايخنا العصمة، كما تدعي بعض فرق الضلال أن لأئمتهم كمالاً مطلقاً لا يعتريه نقص ولا خلل.
إذا تبين هذا فمن لازم القول بيان بعض الأمور، أجملها في أحد عشر أمراً:
الأمر الأول: إن ربط كل خلل يحدث في المجتمع سواء كان انحرافاً في سلوك أو إشاعة لمنكر أو غير ذلك إن ربط ذلك بالعلماء فيه حيف وجور، ورمي لهم بالبهتان.
فقد وقعت في بلاد المسلمين حوادث كثيرة بذل العلماء جهوداً في تنبيه الناس وتحذيرهم، ومع هذا كله وقعت تلك الأمور.
فكم حذر العلماء وبينوا مشافهة أو كتابة أو خطابة حكم الربا والزنا والعقوق والظلم والبدعة ومع ذلك كله لم يقلع عن ذلك كل أحد ولا يلزم من هذا تلوث ذمة العلماء أو تقصيرهم في واجب البيان ولو كانت براءة الذمة في حق دعاة الخير مستلزمة لعدم وقوع المدعوين في المعاصي لما سلم من ذلك أحد حتى أنبياء الله تعالى ورسله عليهم الصلاة والسلام، ولكن براءة الذمة تكون بالبلاغ مع التغيير حسب القدرة، وكذلك ما يتعلق بالفكر المنحرف فقد بينوا وحذروا.
ويقال أيضاً كما قيل سابقاً إن خروج هذا الفكر لا يلزم منه تقصير العلماء.
وبالمثال يتضح المقال: فقد خرج شراذم الخوارج في زمن كانت فيه شريحة كبيرة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم. قام أولئك النشاز من أهل الفكر المنحرف بالإفساد في المجتمع إفساداً عقائدياً وبدنياً ومالياً، فأشاعوا الفوضى ولطخوا وجه التاريخ، فهل يقال أو يتصور أن خروجهم كان بسبب تقصير الصحابة رضي الله تعالى عنهم؟ حاشا وكلا ولا لعل.إذاً فالله الله في النظر إلى الأحداث وأسبابها بعين البصيرة لا بعين البصر المجرد، وليتق العبد ربه فيما يقول وفيما يكتب.
الأمر الثاني: إن علماءنا كانت ولا تزال دروسهم ومحاضراتهم وفتاواهم مكتوبة ومسموعة ومطبوعة، وفيها التحذير من تلك الانحرافات وما شاكلها من مذاهب ضالة، فضلاً عن التحذير من القوادح العقدية والمنكرات السلوكية، ناهيك عن الفتاوى المتنوعة في المعتقد والعبادات والمعاملات والآداب إلى غير ذلك.
الأمر الثالث: إن بعض هؤلاء اللامزين في حق العلماء هم من أسرع الناس مخالفة للعلماء إذا لم توافق فتاوى العلماء آراءهم، والأمثلة كثيرة، ولعل من أوضحها، فتوى العلماء في جواز مجيء القوات الأجنبية في حرب الخليج، فقد أفتت هيئة كبار العلماء على رأسهم سماحة الشيخ ابن باز رحمه الله تعالى بجواز ذلك نظراً للمصلحة العامة، فلما خرجت تلك الفتيا جاءت الاعتراضات عليها مكاتبة ومشافهة.فهذا مثال على أن بعض من يلمز العلماء ويرميهم بالتقصير كان سباقاً في مصادمة بعض فتاواهم، موقعاً بسبب تلك المصادمة الشحناء بين العلماء وبين كثير من شباب المجتمع، ثم تراه بعد ذلك يثرب على العلماء عدم مواكبتهم للأحداث وغيابهم عن الساحة، فيا سبحان الله ويا عجباً من هذا الصنيع!! ولا نقول إلا حسبنا الله ونعم الوكيل.
الأمر الرابع: إن بعض أولئك اللامزين للعلماء والرامين لهم بالتقصير لا يعرف عنهم الوصاية بحضور دروس كبار العلماء كالشيخ ابن باز وابن عثيمين في حياتهما وكذا الشيخ صالح الفوزان وغيرهم من كبار علمائنا، وقد يوصي بعضهم و هذا نادر، بينما ترى أولئك مبجلين معظمين لغير العلماء من المربين والوعاظ والمتكلمين، حاثين على حضور دروسهم ومزكين لهم تزكية يعرف اللبيب مفهوم المخالفة منها، وأنها تشير إلى لمز بعض كبار العلماء لعدم فقههم في الواقع وعدم التفاعل مع الأحداث، إلى غير ذلك من العبارات الجارحة زورا وبهتانا في مقام العلماء.
الأمر الخامس: إن بعض أولئك اللامزين للعلماء والمحملين لكل خطأ على عاتق العلماء ترى بعضهم إذا ما وقع بعض الشباب في تصرف خاطئ أياً كان نوعه سواء من سوء أدب مع عالم أو جرأة في التشهير بخطأ عالم أمام الناس أو إنكار لمنكر على غير صورة شرعية أو غير ذلك من سيئ الأقوال والأفعال.
قام ذلك اللامز بحث الشباب على لزوم العلماء وعدم التسرع والعجلة ولسان حال بعضهم في بعض الأمور «لم آمر بها ولم تسؤني».
ومثل هذا يذكر بقول الله جل وعلا: {$ّاعًلّمٍوا أّنَّ پلَّهّ يّعًلّمٍ مّا فٌي أّنفٍسٌكٍمً فّاحًذّرٍوهٍ}.
الأمر السادس: من الملاحظ أن الكثرة العظمى من الشباب الأخيار يحضرون محاضرات بعض أولئك المعنيين منذ سنوات.
والسؤال موجه لأولئك المحملين العلماء ما يقع من الأخطاء، فيقال لهم: لماذا تحملون العلماء خطأ الشباب وأنتم ممن يتولى تربيتهم وإشعال الحماسة في نفوسهم؟ أين أثر التربية طيلة هذه السنوات؟ ويزول الإشكال في عدم نشأة أولئك الشباب نشأة علمية إذا علمنا أن أغلب تلك المحاضرات - إن لم يكن جميعها - كلام إنشائي حماسي يختلف في لفظه ويتفق في معناه في جميع المحاضرات - إلا ما رحم الله تعالى -.
وبكل حال.. إذا كانت التربية لم تهذب بمنهج السلف الصالح علماً وعملاً فلا تسأل عن أضرارها، وأحسن الله عزاء أولئك الشباب الأخيار الذين آثروا حضور تلك المحاضرات الكثيرة على أوقاتهم وأشغالهم وعوضهم الله تعالى ما يزيدهم علماً وعملاً وتوفيقاً.
ولا يقولن قائل.. إن لازم هذا عدم الكلام في التربية، كلا بل لا بد من التربية لكن بعلم وبقدر، فإذا كانت التربية بلا علم أو غلب الكلام فيها على حساب تضييع أمور أخرى، فهنا المحذور.
الأمر السابع: إن مما يثير العجب كثرة الطرق على هذا الباب من جعل مسؤولية العلماء شماعة يعلقون عليها حدوث الانحراف في شباب المسلمين.
فإن هذا والله مما يثير العجب، وأعجب منه ما نقرأ أو نسمع من التناقض من ذلك المتنقص.
فعلى سبيل المثال: هذا الواعظ أو ذاك الشاعر أو ذاك المتكلم يقدح البارحة في زيد وعمرو ثم اليوم يتحول القدح إلى مدح، مع أن المقدوح فيه لم ينقص شره الذي اتهموه به فضلاً عن زيادة خيره فيما يظهر.ويا ليت أن العلماء ورثوا من مدح ذلك المتنقص لهم المادح لغيرهم، ليت أنهم ورثوا شيئاً من مدحه ولو بالرد، أما المدح فرضاً أو تعصيباً فبعيد إلا أن يشاء الله تعالى.
ومثال آخر على التناقض: ما حدث من بعضهم من ثورة على بعض المنكرات - دون النظر في ضوابط المصلحة والمفسدة المتعلقة بها - ثم ما بين عشية وضحاها تراه سباقاً إلى تسلق أسوارها متصدراً لمنابرها كالقنوات الفضائية.
ولا أعني هنا جواز الخروج من عدمه شرعاً وإنما أعني تحول الآراء بين عشية وضحاها والتماس الأعذار لتغير مواقفه واختلاف آرائه، مع أنه لا يُعد من العلماء، فإذا كان ذلك كذلك أفلا يلتمس عذراً لمن هم أعلم منه بمراتب كثيرة؟
هذا على التنزل بأن العلماء يتحملون ما وقع، فكيف وهم قد حذروا من ذلك بألسنتهم وأقلامهم؟
الأمر الثامن: أن يعلم أولئك القادحون سواء كان القدح من طرف جلي أو من طرف خفي أنهم بقدحهم ولمزهم ذلك قد وقعوا في محاذير كثيرة منها:
1 إعانة أهل الشر على إسقاط منزلة العلماء، بل إن معاولهم أشد فتكا من معاول أهل الضلال، فنقب الحصون من دالخها أعظم من نقبها من خارجها.
2 ومنها أنهم يبوءون بإثم من يتأثر بكلامهم من عامة الناس أو شبابهم.
3 ومنها أنهم لم يسلكوا المسلك الشرعي - على التنزل بصحة قولهم - من المناصحة، فإن كان ذلك قد كان فيأتي بعده درء المفسدة وتحقيق المصلحة من إظهار ذلك الهمز واللمز.
الأمر التاسع: إن بعض أولئك الذين أكثروا من لمز العلماء وظهرت آثار بوادر قولهم سلط عليهم بعض الكتبة الذين نبشوا أقوالاً لهم سابقة وبينوا تقلبات أحوالهم وتناقض مواقفهم، فيخشى أن تكون هذه عقوبة لسوء صنيعهم.
ولا أعني بهذا تزكية أولئك الكتبة ولكن من باب اللهم إني أعوذ بك من شماتة الأعداء.
الأمر العاشر: أوصي نفسي وأولئك الإخوة - ممن فتح عليه باب وعظ أو شعر أو كلام في تربية - بالتزود من العلم الشرعي طلباً ومجالسة لأهله، وأن نعرف منزلة علمائنا ومنزلتنا عند منزلتهم، وأن نعنى بشباب مجتمعنا وأن تكون تربيتنا لهم تربية على منهج علمي مستمد من هدي سلفنا الصالح.
الأمر الحادي عشر: يعلم الله تعالى أنني كتبت هذا المقال لأولئك بغضاً لذلك المنهج القادح واللامز في العلماء ونصيحة وديانة أن يتقوا الله تعالى في أنفسهم، وأن يعلموا أنهم بفعلهم هذا يهدمون ولا يبنون ويفسدون ولا يصلحون.
ختاماً..
أوصي شباب الصحوة، أولئك الشباب صغار الأعمار وكبار الأقدار أولئك الشباب الذين يغبطهم المرء لحرصهم وحبهم لخير، فيقال:
شباب الإسلام.. أنتم غرة في جبين بيوتكم ومساجدكم ومجتمعاتكم، والأمة تؤمل بعد الله تعالى عليكم، فكونوا عند حسن ظن الناس بكم، احرصوا رعاكم الله تعالى على طلب العلم الشرعي من أهله، وبخاصة من كبار علمائكم، وسترون من الله تعالى ما يسركم، ففي العلم الشرعي صواب التعامل مع الناس وصواب التربية إلى غير ذلك، إياكم والتسرع وبخاصة في أوقات الفتن والنوازل، احذروا من العواطف الجياشة التي لم تزم بزمام العلم الشرعي، فإن مثل هذه العواطف تنقلب عواصف.
شباب الإسلام.. الزموا المنهج العلمي في مسيرة حياتكم، علماً وعملاً، ودعوة وتعاملاً، اعرضوا ما تقرأون وما تسمعون عن المنهج العلمي، سلوا كبار علمائكم بخاصة.
شباب الإسلام.. اعلموا رعاكم الله تعالى أن من أعظم أسباب الخلل في هذه الصحوة عدم التفريق بين العالم الذي تعبدنا الله تعالى بسؤاله، وبين من فتح له باب شعر أو وعظ أو كلام في تربية، فهذا الخلط يفتح باباً من أعظم أبواب الخلاف والفتنة، ذلك إذا تلقى الشباب توجيههم وبخاصة في النوازل الكبيرة من غير كبار علمائهم.
شباب الإسلام.. تأملوا الأمر برفق وروية، ولا تخلطوا بين العالم وغير العالم، وليكن أخذكم للعلم من أهله.
سأل شاب الإمام مالكاً أن يوصيه، فقال له الإمام مالك: اطلب العلم من أهله.
شباب الإسلام.. أنا أعلم أن كلامي هذا قد لا يرضي أناسا، وأسأل الله تعالى أن يؤلف بين القلوب والأبدان، لكن أنتم شباب الإسلام الأهم، وأنتم المراد، فكم والله رأيت في كثير منكم حرقة على ما ضاع من عمره دون تحصيل علم يذكر، وكم شكى ذلك أقوام منكم، وكم ضعفت عزائم بعضكم لما رأوا من يخذلهم عن سلوك طريق العلم ولزوم كبار العلماء.
شباب الإسلام.. في المنهج العلمي بصيرة في الأمر، ولزوم للطاعة، وتنبه لمكائد العدو، وهداية إلى كل خير، في المنهج العلمي ضوابط للترويح المشروع، ذكرت هذا حتى لا يظن بعضكم كما تلبس ذلك على بعضكم أن المنهج العلمي يمنع من الترويح عن النفس، وهذا من الجناية على الدين.
ففي المنهج العلمي راحة نفسية وبدنية.
تفقدوا رعاكم الله تعالى أموركم وانظروا كم ذهب من السنين على بعضكم ولم يستفد علما، كما قال ذلك غير واحد ممن شعر بضياع الأوقات في غير تحصيل علم، ورأى غيره ممن لزم العلم وأهله مجالسة أو مشافهة قد تقدم عليه بمراحل.
شباب الإسلام.. فيكم من فتح الله عليه بموهبة خطابة أو بقريحة شعرية أو بقلم سيال أو بأسلوب تربوي وهذه مواهب خير شريطة أن يكون توظيف تلك الطاقات على منهج العلم الشرعي وفق هدي سلفنا الصالح.
فالشاعر يعرض قصيدته على عالم أو طالب علم ليصحح خللها العلمي، وكذا الخطيب وصاحب القلب والمربي يعرضون مواهبهم من خطابة ومقال وأسلوب تربوي على أهل العلم الراسخين؛ ليبينوا لهم الخطأ من الصواب فيكونون على علم وبصيرة من أمرهم.
معشر الشباب.. والله إني لكم ناصح، ولكم محب، وعلى نفسي وعليكم مشفق، وما كتبت هذا الكلام إلا من باب النصيحة لكم حتى تكونوا على بينة من أمركم، فكونوا شباب الإسلام من قادة سفينة الإسلام والسنة إلى بر الأمان وبخاصة في هذه الأزمنة المدلهمة.
جعلكم الله تعالى مباركين أينما كنتم، وأقر أعيننا بأن نرى منكم أئمة في السنة يعلمون ويعملون ويعلِّمون، وأن نرى فيكم الداعية بعلم والخطيب بعلم والشاعر بعلم والمربي بعلم، وأن نرى منكم من يذكرنا بأئمة الديانة من أهل السنة والجماعة، كشيخ الإسلام والشيخ ابن باز وابن عثيمين ومن سبقهم وجاء بعدهم.
شباب الإسلام.. ربوا ناشئتكم على منهج سلف الأمة، علماً وعملاً وأبشروا وأملوا فسترون من الله تعالى ما يشرح صدوركم ويقر أعينكم.
الله تعالى أسأل أن يبارك في شباب المسلمين، وأن يجعلهم قرة عين لوالديهم ولمجتمعاتهم ولأمتهم، وأن يهدينا وإياهم لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا هو، وأن يصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها الاهو .
والحمد لله الذي بنعمتة تتم الصالحات .
المحاضر بالكلية التقنية بالرياض
|