أسرعت إلى المستشفى تلك الليلة ناسياً أوراقي الثبوتية، لقد اتصل مدير الاسعاف طالباً حضوري بسرعة لكثرة الإصابات، كنت أتنقل بين مصاب وآخر لأطلع على كمية ونوعية الإصابات، كان البكاء والألم والصراخ والذهول وبرك الدم القاسم المشترك، ذهبت إلى غرفة العمليات تاركاً الاسعافات الأولية للزملاء وبدأت مشواري تلك الليلة مع مجموعة من الجراحين المميزين في إصلاح ما حدث، لقد كنت أخرج فقط بين عملية وأخرى لتحديد من يأتي أولا إلى العمليات حسب إصابته وخطورة حالته، لكني كنت أحمد الله سراً على أن ميزنا وعلمنا لنكون نافعين للناس.
لقد سخرنا كل النتاج الحضاري العلمي من تجهيزات وأبنية وتدريب طبي ووسائل علاجية وأدوية لمساعدة وعلاج هؤلاء الناس، لقد كان استعمالاً خيراً لمنتجات الحضارة، ومع أننا كنا ناجحين في معالجة هذه الإصابات فقد كان الجميع حزيناً على إزهاق أرواح وصحة هؤلاء الناس، لقد كنا نعالج النتائج وليس السبب.في زيارتي للمرضى بعد إتمام العمل كان لكل من المصابين قصته كان الجميع يكرر ما حدث ولكن الجميع لا يدري لماذا حدث والملفت للنظر أنه عدا رجل فلبيني وامرأة كورية كان جميع المصابين الذين أجريت لهم العمليات من العرب والمسلمين.
في علم الطب هناك قاعدة أساسية هي أن العلاج النهائي هو علاج الأسباب وليس الأعراض، ومع أن الصحة والحياة منحة إلهية قيمة فإنها تبدد في مجتمعنا بلا حساب، التعبير والتغبير بالقتل مع قتل النفس ظاهرة محيرة، إنها تستحق دراسة علمية عميقة يعكف عليها مختصون تشمل الماضي والحاضر والمستقبل آخذة في الاعتبار كل الظروف من سياسية واقتصادية واجتماعية وتربوية ودينية، عندها فقط نستطيع أن نتعامل ونعالج تلك الظاهرة، ذلك لأن الخسارة هنا مضاعفة فالكل ميت، المعتدي والمعتدى عليه والكل خسارة للأمة، إن الخسارة الاقتصادية ضئيلة إذا ما قورنت بالخسارة البشرية، الإنسان هو خليفة الله ومحور الحياة وصانع الحضارة وهو الذي يستعملها أيضا وهو من يصونها ويطورها لذلك يجب أن تصان الحياة والصحة ولا تبدد، إن تطورنا مرهون بهذه الطاقة البشرية التي يجب ألا نكتفي بصيانتها فقط بل أن تطور بالإيمان والعلم والمعرفة.
لقد ارتفع الإسلام كرسالة حضارية عن البشر والزمان والمكان ليظلل الكون والمخلوقات والجماد مانحاً الإنسان وضعاً متميزاً حتى نهاية التاريخ، ورغم وضع المسلمين المتردي واحتلالهم مكاناً متأخراً على قائمة الأمم وسلم الحضارة فإن الإسلام يشق طريقه بقوته اللطيفة إلى عقول الناس في كل أنحاء العالم رغم كل ما يلصق به وأهله من اتهامات، وهو ينتشر ببطء خاصة في الأمم الأكثر تقدما وأبنائها الأعلى مكانة في سلم الحضارة، وهو يحتل كنموذج تم تطبيقه في الماضي مكاناً بارزاً في الفكر والتجربة الإنسانية جعل أعداءه يصنفونه كعدو أول، هذا هو الإسلام المستهدف الآن، إنه الاسلام المعتدل الذي يجب علينا اتباعه وتعليمه لأبنائنا وتبليغه للناس، لقد قدمنا كمسلمين نموذجاً متميزاً للحضارة في تاريخنا وتاريخ الإنسانية نحن الآن أبعد ما نكون عنه، لكن يجب ألا يكون تخلف الأمة عن مقدمة الحضارة مدعاة لليأس والقنوط وإنما دافع أكبر للعمل وبذل الجهد، لم يكن الولاء يوماً في الرخاء إنما في أوقات الشدة، إننا لسنا شهداء على المسلمين فقط بل شهداء على كل الناس وأصحاب فكر عريق قدم الكثير ويستطيع تقديم الأكثر، يجب علينا إعادة حساباتنا وإصلاح أوضاعنا قبل أن نتوجه باللوم أو إصلاح الآخرين، يجب أن نتحاور مع أنفسنا ومن ثم مع الناس، قد لا نكون الأوائل في إنتاج وتطوير العتاد العسكري وأدوات الدمار والقتل وقد تكون هذه ليست من أولوياتنا، لأننا نعنى أكثر بالحوار بدل الدمار، ولسنا الأوائل في باقي العلوم والمعارف المدنية ولكننا نعتقد جميعاً أننا نملك رسالة حضارية فيها الخير والسعادة لكل البشر والمخلوقات، ونعتقد كذلك أن فكرنا هو الذي سيسود رغم وضعنا المتردي، إننا نؤمن أن رسالتنا الحضارية تعني الحياة والسعادة والأمن لجميع الناس بل وتتسع لتشمل الجماد والبيئة، ليست الحضارة هي صنع وصيانة وتطوير الشيء فقط على رأي المفكر الجزائري مالك بن نبي فهذا نتاج مادي تقني يتبع الرقي الفكري والاجتماعي تستطيع أن تحصله أية أمة في وقت قصير كما كان الحال في اليابان وكوريا.إن من يخاطب الناس ويدعوهم إلى مشاركته فكره وما يعتقد به يجب أن يهتم بأمورهم ويحرص على سلامتهم.
التعرض للظلم أو لتجربة سيئة يجب ألا يفقدنا صوابنا ويدفعنا إلى هدم كل شيء بما في ذلك أنفسنا، لأنه من غير المفيد والذكي جلد الذات والمجتمع وجلد الآخرين. الشكوى والتبرير ضارين والمفيد هو النظر الى المستقبل.
من الواضح أننا عرضة للتآمر ولكننا أيضاً قابلون للمؤامرة، الجراثيم والفيروسات خطرة وخبيثة وموجودة ولكنها تعجز دائما أمام جهاز مناعة سليم، إن الفعل هو المطلوب وليس ردة الفعل، إننا بحاجة إلى الكثير من البناء وديننا ينهانا عن الهدم، هذا هو الإسلام الذي نعرفه ونؤمن به وندعو إليه والذي يتوجه إلى الفطرة والعقل.
في طريق عودتي من المستشفى طلبت من زميل لي أن يتبعني بسيارته للتعريف علي، كوني لا أحمل أوراقي الثبوتية في تلك الظروف، لم تزعجنا الدوريات في الطريق إنما كان الخطر يقبع في سيارة يقودها شاب تلتوي على الطريق بسرعة جنونية لتمر بين سيارتي وسيارة زميلي برعونة كحية رقطاء، رغم خلو الطريق من السيارات أليس هذا إرهاباً من نوع آخر وسوء استعمال مشيناً للحضارة ومنتجاتها.
(*) المشرف العام على التربية الخاصة بوزارة التربية والتعليم
|