يعود شهر حزيران هذا العام لا ليذكرنا وحسب كعادته السنوية بالذكرى الحارقة لهزيمة عام 1967م أو ما سمي بسنة النكسة تعبيرا عن مركب هزيمة العرب السياسية والنفسية والعسكرية في تلك الواقعة، ولكنه يعود كما عاد عام 1982، وكما عاد عام 1990/91م وقد سجل العرب هزيمة جديدة تضاف إلى سجل الانهيار المريع الذي تحيط بأوطاننا هاويته من كل جانب ولأكثر من جيل.
فكما كان أطفال جيل تلك المرحلة من عمر العاشرة، وما فوقه يلصقون آذانهم بالراديو «الترانسيستور» ليسترقوا السمع لأخبار لا تنقلها محطات التليفزيونات الأسود والأبيض المحلية وقتها فيقفزون في ساحة المدارس أو على الطرقات الترابية نشوة بتصريحات الانتصارات الساحقة كان أطفال وشباب الفضائيات اليوم يتعرضون لنفس حالة العصاب السياسي والعمى الإعلامي.
وكما أصيب أطفال وشباب تلك المرحلة بصدمة مروعة ليس من الهزيمة وحدها بل من اكتشاف وهم النصر، فقد عاشت الأجيال الغضة عام 82 صدمة لا تقل ترويعاً بالاجتياح الإسرائيلي لبيروت وسط حفاوة الصمت العربي وبفضيحة مجازر صبرا وشاتيلا التي محت تجمعا بشريا أعزل كاملا في جنح الظلام العربي والعالمي معاً.
لقد كان على موجة الأجيال الصغيرة والشابة مطلع عقد التسعينات أن تواجه في عمر مبكر تجربة رعب التمزق بين الإخوة الأعداء وبين أعداء لم يكن بد من تخيلهم بصورة الأصدقاء بل بصورة المنقذين النبلاء بما تخير منه الروائي الشاب محمد علوان لقطات آسرة لحيرة طفل العاشرة في حرب الخليج، صور فيها تصويراً موسيقياً جارفاً تشققات أرواح الأطفال والشباب الصغار بسكاكين الأسئلة التي لم يكن يعرف أجوبتها كبار تلك المرحلة وإن كانت أيديهم ملطخة بأسباب الخراب.
ولم يكن ما كتب على اللوح السياسي لأطفال عمر التمييز والأكبر منهم لهذه المرحلة بأقل قسوة، مما كتب على الأجيال التي سبقتهم فما أن لاح العقد الأول من الألفية الثالثة إلا وقد جاء يحمل تباشير هزيمة أخرى وكأننا مع كل عقد جديد على موعد مع تجدد الهزائم أو تكررها الرتيب بما لا يبدو معه أننا يمكن أن نفيد من تراكم التراجعات إلا في التحول الانحداري نحو المزيد منها والأسوأ مما سبقها.
والسؤال الذي يطرح نفسه بحدة من ركام النكبات هو لماذا نتوارث الراية «البيضاء» جيلاً بعد جيل بعد جيل في حث الخطى لمواصلة السير في موكب الكبوات؟ كيف نطيق أنه كلما أطل أمل بالخروج على أوضاعنا المتردية تشبثنا بكل مسبباتها كعبيد تخشى الحرية؟ إلى متى كلما جاءتنا فرصة تاريخية لتغيير ما بأنفسنا نصر على تحويل الحلم إلى حمل كاذب؟
لماذا جاءت نكسة حزيران وذهبت دون أن تكون دافعاً لنا بمرارتها ومهانتها وويلاتها وتوسع الاحتلال لأن نراجع ما حدث مراجعة موضوعية لا تسمح بتكرارها؟
لماذا واظبنا على إعادة إنتاج تلك الهزيمة بأشكال أكثر إثارة وتعقيداً مع كل عقد جديد من منتصف القرن الماضي إلى اليوم؟
هل يحدث ذلك لأننا كشعب عربي نهوى الهزائم أو هل تسمح الحكومات بتكرار مسلسل الهزائم نكاية بالشعوب لمزيد من إذلالها وإصابتها بداء الإحباط حفاظاً على الاستمرار في الحكم بأي ثمن كان؟
لا أظن أي عاقل يستطيع أن يجزم الإجابة بالإيجاب على السؤال الأخير خاصة، ولكن بالمراجعة التاريخية لوتيرة هذه الهزائم ومسارها يمكن للمتابع تعقب المسؤولية المشتركة بين «الشعوب والحكومات» في إنتاجها، فالشعوب التي صرخت من المحيط إلى الخليج، ووقفت بالساعات عند باب بيت القائد الذي أفضت قيادته إلى هزيمة حزيران 67م لتثنيه عن قراره «الصائب» بالاستقالة لا يمكن إلا أن تكون شريكة في استمرار شروط الهزيمة ومسؤولة عن التشبث بنفس موقعها الهامشي من الأحداث، وبنفس مسافة ابتعادها عن القرار السياسي، كما أن بإمكان المتابع أن يلاحظ دون أن يحتاج إلى النظر بغير العين المجردة لو لم يترك مهمة الإبصار لسواه من أصحاب الكراسي إن تكرار هذه الهزائم لم يكن ليتم لولا استمرار الظرف السياسي والاجتماعي والاقتصادي الذي لا يمكن إلا أن يقوم بإعادة إنتاج الهزيمة لأنه لا يملك شروط النصر. إن السؤال الذي ليس من مواجهته بد هو ما الذي تغير في أوضاع العالم العربي من هزيمة عام 67م إلى يوم سقوط بغداد في يد الطاغية أولاً ,وفي يد الاحتلال الأمريكي أخيراً إن على مستوى تشكيلة الحكم وتركيبة النظام السياسي، أو على مستوى فعالية المجتمع المدني ومؤسساته الأهلية أو على مستوى تقدمه الاقتصادي والتقني وإطلاق حريات التعبير والفكر والإبداع والعدالة في توزيع الدخل وتعميم الخدمات لنتوقع إدارة أفضل للأزمات أو تعديلاً لموازين القوى يسمح بمخالفة إرث الهزيمة.
إنه على الرغم من زيادة الدخل الريعي للبترول الذي أدى في مجتمع الخليج خاصة، وفي المجتمع العربي إلى حراك اجتماعي رأسي وأفقي غير مسبوق في تاريخ المنطقة، فإن هذا الحراك لم يستطع إلى هذه اللحظة التأثير على طبيعة العلاقات الاجتماعية «Social Rela
tion»، وطبيعة علاقات السلطة «Relations of power». فلا الحراك الأفقي أي الانتقال في
المكان أدى إلى تعميق لحمة الرباط القومي، هذا إذا لم يفرز حزازات شوفينية متعالية بحكم مد الدولة الاقليمية على حساب الانتماء القومي والمشتركات المصيرية.
كما أن الحراك الرأسي أي الانتقال في المكانة لم يصبح قادرا على توسيع قاعدة المشاركة الشعبية في المسؤوليات الوطنية والاجتماعية، هذا إذا لم يعمل الوضع الأخير أي توسع الحراك الرأسي إلى زيادة المتضامنين مع والمستفيدين من الأوضاع المنتجة للهزيمة.
والمؤسف أن مصاحبات هذا التغير وأهمها التوسع اللافت في أعداد المتعلمين والمتعلمات، وكذلك بروز شريحة من أصحاب رؤوس الأموال في القطاع الأهلي وخصوصا بمنطقة الخليج لم يسهم بما في طاقة هذه الشرائح الاجتماعية لتطوير العلاقات التي أشرنا إليها إلا بقدر محدود لا يتعدى تطعيم التشكيلات الحكومية بحملة الدرجات العلمية العليا كخبراء وكتكنقراط لا ترقى بهم إلى تشكيل قوى اجتماعية تكون طرفا مقابلا و«مستقلا» استقلالاً نسبياً في علاقة العقد الاجتماعي بين الحاكم والمحكوم على أساس من التراضي والاعتراف المتبادل بحدود السلطات وبالحقوق والواجبات وتقنينها مع تفعيل آلية الاحتكام لمثل هذه المنظومة القانونية أو الشرعية حسب طبيعة النظام، وهذا مرة أخرى وأخرى يعيد طرح السؤال هل ستمر إذن هزيمتنا السياسية والاجتماعية والعسكرية للعام 2003م التي انتهت بالاحتلال الأمريكي للعراق، كما مر ما سبقها من الهزائم بمرحلة الصدمة الأولى ثم نتعود المصيبة أو المصاب ونعود إلى سيرتنا الأولى حيث أقصى ما يمكننا فعله ترميم الدمار ببعض «الإصلاحات» التجميلية المؤقتة لريثما يتوغل فينا قطار التسوية أو نتوغل نحن في «متاهة الطريق»؟
غير أن المفارقة الساخرة أن ذلك الخيار «الترميمي» لم يعد خيارنا الخاص بل أصبح هناك من يريد أن يملي علينا أشكال الرمم التي علينا نفخ الرماد فيها «شارون رجل أمريكا للسلام مثالاً لا حصرا». ولن يشد أزرنا في مواجهة هذه الهجمة غير المتكافئة إلا أن نعمل على تطوير بديل إصلاحي استراتيجي وجذري نستبدل به سياسة الترميم التي لم تنجح إلا في تكرار الهزائم بسياسة البناء على أسس من المسؤولية المشتركة.
وهذا ما يفتح موضوع ضرورة المبادرة إلى مؤتمر وطني يمثل جميع القوى الاجتماعية بكل بلد عربي للتباحث في كيفيات العمل لتجنب إعادة إنتاج الهزائم أو تحولنا لا - سمح الله - إلى رعايا في موطننا بقيادة استعمارية صهيونية للمنطقة.
|