يراود سمعي هذه الأيام مقولة الرئيس الراحل محمد أنور السادات رحمه الله، عندما تملكه الغضب قبل أحداث الفترة الأخيرة من حكمه وهو يقول مقولته الشهيرة «إن للديمقراطية أنياباً أشرس من أنياب الديكتاتورية»، وأتذكر أن هذه المقولة كانت في حينها أحد المآخذ التي تجاذبتها التحليلات، واتخذت كمضرب مثل يحمل الكثير من معاني السخرية، إضافة إلى ما ساد حينها من استغراب من هذا القفز على المعاني من خلال دمج المسميات السياسية في إطار واحد وتوظيف تعريفاتها في غير محلها.
عندما أسترجع هذه المقولة الشهيرة وأقارنها بما هو سائد على الأرض حالياً، يتملكني تساؤل، هل كان رحمه الله مستشرفاً للتاريخ بأبعاده، وقارئا لدراماتيكية التطور الديمقراطي، أم كانت مجرد جملة عابرة قصد منها في حينه التخويف؟ على كل الأحوال فإن هذه المقولة أصبحت مهيأة الآن لتكون ضمن أدبيات العلوم السياسية في إطارها الحديث لما تحمله من دلالات ومعان تتفق مع الوضع القائم السائد في العالم حالياً.
وعندما عاودت التفكير في هذه المقولة، بدا لي التساؤل الذي كان سائداً حين إطلاقها، كيف يكون للديمقراطية أنياب أشرس من أنياب الديكتاتورية؟ وحاولت أن أجد إجابة عن هذا التساؤل، واتضح لي أن الديكتاتورية لها خط واضح في نهج التعامل يعتمد على القمع والأحكام القسرية وقد تنجح في خلق جو من التعايش معها أو فرض نمط التعايش الذي تسعى له، بينما الديمقراطية هي المشاركة والحرية والمؤسساتية والمجتمع المدني وحقوق الإنسان، ولذا فإن أي تراجع في ممارساتها يترك أثراً شديد القسوة، ويوجد حالة من الارتباك النفسي، ومناخا يسوده التنافر، ولذا لم يكن غريباً أن تقابل جميع الممارسات الأمريكية - وهي رمز الديمقراطيّة ورافعة لوائها - بهذا الاستهجان من قبل كافة الأوساط سواء داخل أمريكا أو في مختلف أرجاء المعمورة، وتحديداً منذ أحداث سبتمبر، فقد أظهرت ديمقراطيتها أنياباً أشد شراسة من أنياب الديكتاتورية، ولعل في مقدمتها هذا الشعار الذي أفرزته الديمقراطية الأمريكية «من لم يكن معنا فهو ضدنا» وما يعاني منه المعتقلون بجوانتانمو، والإجراءات المتلاحقة التي أظهرتها الأيام منذ أحداث سبتمبر كإجراءات القبض، والتحقيق، والتفتيش، وإجراءات المطارات، والتدخل العلني في الشؤون الداخلية للدول، والسعي لتغيير الأنظمة بشكل علني، إضافة إلى النمط الجديد الذي تم إعلانه في مبادرة وزير الخارجية الأمريكية والذي يعتمد على الاتصال الرسمي الأمريكي مع الشعوب مباشرة.
جانب آخر يعزز صدق مقولة الرئيس الراحل السادات، هو مسألة العقاب، فالعقاب في الديمقراطية أشد شراسة وضراوة من عقاب الديكتاتورية، والسبب في ذلك أن العقاب الديكتاتوري غالبا ما يسوده التهور والتسرع والفردية وهذه الآليات التي ترافق العقاب الديكتاتوري تسهم في خلق جو عداء بما يحد من قسوة هذا العقاب بل وفي أحيان كثيرة يتم ردعه، أما العقاب الديمقراطي فهو عقاب يستفيد من النظام المؤسسي في تهيئة الرأي العام لتأييد توجهه، ويبني له التحالفات، ويأخذ وقته في غير عجلة، لتكون نتائج عقابه مدمرة وكاسحة من خلال أنيابه التي إذا ظهرت نهشت نهشاً مميتاً.
ونقطة أخرى في الموضوع وهي جانب التحول، فالتاريخ الحديث يشير إلى أن تطور الديكتاتورية أو الشمولية أو غيرها من المسميات وهي كثيرة، يقودها في الغالب إلى النهج الدّيمقراطيّ، ولذا فإن الجميع لم يفقد الأمل في تحول جميع الأنظمة الديكتاتورية إلى أنظمة ديمقراطية طال الزمن أو قصر، مهما كانت قسوة ممارساتها أو بطء عجلة التغيير فيها، حتى عالمنا العربي والذي يحلو للكثيرين أن يصنفوه في ذيل القائمة في كل شيء يشهد تغييرات وإن كانت بطيئة إلا أنها ملحوظة ومؤثرة في أحيان كثيرة، ومن غير الإنصاف أن نقارن ما نعيشه الآن بمثل ما كانت الأمة تعيشه قبل بضعة عقود من الزمان، وإن كان البحث عن لقمة العيش قد زحزح الاهتمام بالديمقراطية إلى موضع متأخر في اهتمامات المواطن العربي، إلا أن التطور قائم وعجلته دائرة، ولكن التساؤل ماذا عن تحول الديمقراطية أو تطورها، هنا أيضاَ تظهر شراسة أنيابها، لأنها تتجاوز حدودها المحلية من خلال نهج تسلطي مدعوم بالقوة يسعى إلى صهر المجتمعات في إطارها وتفكيك الثقافات وتعميم نمط حضاري واحد، والقفز على موروثات المجتمعات من تقاليد وثقافات وأديان، وإرباك المجتمعات بإيجاد حالة من التوتر الدائم لها مما يجعلها في صراع بين المحافظة السلمية على مكتسباتها أو التفرغ لمقاومة حالات التوتر التي تفرضها عليها أنياب الديمقراطية تحت شعار الديمقراطية.
وفي جانب أوجه الصراع فإن الديمقراطية تظهر أنياباً أشرس من أنياب الديكتاتورية، فالديكتاتورية توجه دائماً اهتمامها صوب الشأن الداخلي من أجل تأمين استمرارها وإذا حاولت التمدد خارجياً فغالباً ما يتم تقليم أظفارها إن لم يتم اقتلاعها، بينما أوجه وأشكال الصراع الذي تنتهجه الديمقراطية متعدد ويأخذ أنماطاً عديدة ثقافية واقتصادية وحضارية، وتسعى الديمقراطية دائما أن تستفيد من البريق الذي يرافقها لتحقيق مخططاتها، لأنها تسعى مقدما لتكريس فكرة من يقاوم الديمقراطية فهو ضد التطور والتحضر، وبغطاء من هذه الفكرة فإنها تمارس ممارسات تعجز الديكتاتورية عن الوصول لها أو مجرد التفكير فيها.
ويظهر من خلال التحليل أن التطور التاريخي للديمقراطية سيقود إلى مفهوم آخر وهو ديموسفليزيت فورس «DEMO-CIVILIZAT FORCE»، فإذا كانت الديمقراطية هي حكم الشعب، فإن التطور الديمقراطي بدأ يقود إلى مفهوم جديدا وهو «حكم قوة الحضارة»، ولا شك أن هذا المفهوم الذي يظهر أنه آخذ في التسيد على أرض الواقع، سيكون معول هدم قاس لإنجازات ديمقراطية براقة في العالم رغم أن الكثير من الشعوب مازالت تتطلع لها، لأنه سيرافقه تطور مناهض من أجل الحفاظ على الهوية والحضارة والخصوصيّة بما يمكن من قيادة صراع القوة بين الحضارات، ولذا فإن الديمقراطية كشأن أي منهج إنساني يبدو أنها أوشكت على الوصول إلى مرحلة التشبع الكامل، وما يظهر من بريق لها هو انعكاس للضوء المسلط على أنيابها التي اكتملت، وأصبحت جاهزة لنهش مرحلة ثرية في تاريخ الإنسانية، قبل أن تنعم بها بقية الشعوب.
|