احيانا تتحدث الأرقام، فتحكي دلالاتها أزمة الواقع، وتنبىء فجواتها بمدى عمق الهوة، فقد جاء في تقرير نشرته (كاب جميني ارنست اند يونغ) وشركة (ميريل لينش). ان الثروات العالمية ارتفعت في السنة الماضية بمعدل 6 ،3% لتبلغ 2 ،27 تريليون دولار امريكي، اي بمعدل 1 ،2% ليصل عدد الاغنياء الى 3 ،7 ملايين شخص وهو ادنى معدل للنمو في تاريخ التقرير العالمي للثروة، وقال التقرير ان عدد كبار الاغنياء قد ارتفع بمعدل 2% اي 58 الفا وازدادت ثرواتهم الاجمالية 6 ،3%، و«كبار الاغنياء هم الذين يملكون اكثر من 30 مليون دولار من الاصول المالية».. ولكن الشاهد في هذا التقرير ما ورد فيه ان عدد الاغنياء في الشرق الاوسط ارتفع بمعدل 7 ،4% اي 20 الفا الى ما يقدر بـ000 ،300 ثري، ليرتفع اجمالي ثرواتهم في الشرق الاوسط 45 مليارا خلال السنة الماضية ليصل الى 1 ،1 تريليون دولار اي بنسبة 6 ،4%، حسبما جاء في تقرير الثروة العالمية لعام 2003م الذي نشر مؤخرا وتناقلته وسائل الاعلام.
واذا اتفقنا مبدئيا ان هذا التقرير الشرق اوسطي يعكس الحال في عالمنا العربي فلابد من قراءته من خلال تقرير التنمية الانسانية في العالم العربي لعام 2002م، وذلك لكي نكون اكثر صلة بالواقع واكثر فهما وأدق تعبيرا عما يجري فيه من احداث، وهو التقرير الذي اعيد استعراض ارقامه مرارا، ولكن كما يقال في الاعادة افادة، ومن الصعب قراءة تقرير الثروة العالمية بمنأى عن تقرير التنمية البشرية.. فمعدل نمو دخل الفرد العربي، حسب تقرير «التنمية الانسانية العربية» لسنة 2002م خلال العقدين الماضيين، هو الأقل في العالم باستثناء افريقيا جنوب الصحراء، اذ انه لم يتجاوز نصف في المئة سنويا، واستمرار هذا المعدل يعني بأن المواطن العربي يحتاج 140 عاما ليضاعف دخله، بينما يستطيع المواطن في مناطق اخرى مضاعفة دخله مرة كل عشر سنوات، بينما يتراوح دخل الفرد مثلا في دول اوروبا بين 19 الف دولار في اسبانيا و26 الف دولار في المانيا، ويتجاوز معدل وفيات الاطفال 45 في الالف في العالم العربي مقابل 4 فقط في الالف في دول اوروبا.
وفي ظل ارقام تقرير (كاب جميني ارنست اند يونغ) وشركة (ميريل لينش) عن ازدياد عدد الاغنياء في الشرق الاوسط، جاء في بيان التنمية البشرية ان الناتج المحلي الاجمالي لكل البلدان العربية في العام 1999م، بلغ ما مقداره 2 ،531 مليار دولار امريكي، اي ما يشكل اقل من دخل دولة اوروبية واحدة مثل اسبانيا والتي يقدر ناتجها المحلي الاجمالي بحوالي 5 ،595 مليار دولار. بينما تقدر ثروات الاغنياء في الشرق الاوسط بـ1 ،1 تريليون دولار، وقد ارتفع الناتج المحلي الاجمالي الحقيقي في العالم العربي بالمعنى المحدود من 7 ،256 مليار دولار في العام 1975م، الى 7 ،445 مليار دولار في العام 1998م، وبلغ حجم الدين القائم في ذمة الدول العربية المقترضة الداخلية والخارجية مجتمعة 560 مليار دولار، يدفع للقسم الخارجي منها فقط كل عام 40 مليارا.
اما انتاجية العامل الصناعي العربي فهي منخفضة ويترافق ذلك مع تدهور الاجور ما يفاقم من حدة الفقر. ويقدر التقرير حجم البطالة في الدول العربية بحوالي 12 مليون عاطل من العمل عام 1995م، اي ما يوازي 15 في المئة من قوة العمل، ويتوقع ان يصل عدد العاطلين الى نحو 25 مليونا سنة 2010 م. ويشير التقرير بأن كل واحد من بين خمسة افراد عرب يقل دخله عن دولارين في اليوم، وثمة 65 مليون امي ثلثهم من النساء، كما لوحظ انحسار في فرص التعليم والتعلم. ويبدي التقرير قلقا تجاه الشباب العرب الذين يشغلهم تأمين فرص العمل والتعلم، وما يزيد القلق ان 51 في المئة من المراهقين صرحوا برغبتهم في الهجرة لعدم رضاهم عن الاوضاع الحالية والفرص المستقبلية في بلدهم الام.
وتعتبر نسبة الاميين بين البالغين في العالم العربي «ثلثهم من النساء» من الاعلى في العالم، فحسب التقرير هناك نحو عشرة ملايين طفل تتراوح اعمارهم بين 6-15 عاما لم يلتحقوا ابدا بالمدارس، واذا لم يعالج هذا الموضوع، فسيصل عام 2015م، عدد الاطفال العرب الاميين الى 40%. وسبب ارتفاع نسبة الامية في العالم العربي يكمن في تدني مستوى التعليم والمواد التعليمية وعدم تطويرها، وعدم توفير رأس المال لتطوير آليات وطرق التعليم.. وعدم الاهتمام بالتعليم وعزل مناهجه عن متطلبات سوق العمل يؤدي إلى قتل حماس الطلاب لإكمال تعليمهم وبالتالي تدني مستواهم العلمي والانتاجي لاحقا ويدخل كل عام الى سوق العمل العربي ستة ملايين عامل جديد، اغلبهم اجانب في بعض الدول الخليجية، وتعتبر هذه النسبة الاعلى في العالم. كما تعتبر البطالة في العالم العربي التي تصل اليوم الى 15% من اعلى معدلاتها في العالم، ويعتقد انها سترتفع الى 25% بعد عشر سنوات بسبب عدم توسيع سوق العمل لاستيعاب الايدي العاملة.
ويعد تمويل البحث العلمي في العالم العربي من اكثر المستويات تدنيا في العالم، اذ يبلغ معدل الانفاق العلمي نسبة الى الناتج المحلي 14 ،0 في المئة فقط في العالم العربي عام 1996م في حين انه يبلغ 53 ،2 في المئة عام 1994م في اسرائيل، و9 ،2 في اليابان. اما الاستثمار في البحث والتطوير فهو اقل من سبع المعدل العالمي، كما ان استخدام المعلوماتية في الدول العربية اقل من اي منطقة اخرى في العالم، اذ لا تتجاوز نسبة مستخدمي انترنت 6 ،0 في المئة ويملك 2 ،1 في المئة فقط من المواطنين العرب حاسوبا شخصيا. ويبلغ النقص في الانتاج الفكري والابداعي بالعالم العربي حدا كبيرا فمجموع ما يترجمه العرب من الكتب 330 كتابا سنويا، وهو خمس ما تترجمه اليونان، وخلال الالف سنة الماضية، ترجم العرب من الكتب بقدر ما ترجمته اسبانيا في سنة واحدة.
كما يعاني العالم العربي من انعدام الحرية السياسية والاقتصادية والاجتماعية بشكل لا مثيل له في العالم كله، والمواطن العربي يتمتع بخمس الحرية التي يتمتع بها مواطن اوروبي وشمال امريكي، وبنصف الحرية التي يتمتع بها المواطنون في افريقيا وليس للمواطنين في العالم العربي تأثير على حكوماتهم وانظمتهم.
وتقرير الثروة العالمية قد يقودنا الى نتيجة مفادها ان العالم العربي من الاكثر ثراء في العالم، فعدد سكانه يشكلون 4% من سكان العالم، بينما يملك اغنياؤه 4% من ثروات الاغنياء في العالم، وارقام زيادة الاغنياء العرب في تقرير الثروة العالمية ستعد مؤشرا ايجابيا لو كانت متوافقة مع نجاحات على مستوى التنمية البشرية العربية، الا ان تقرير التنمية الانسانية في العالم العربي يشير الى ان الوضع على مستوى الشعوب هو الاقل تنمية، والاكثر فقرا وتخلفا وامية وحقوقا، فالمعدل الوحيد الذي زادت نسبته الى اعلى من ضعف المعدل العالمي هو عدد اغنيائه فقد وصلت لـ7 ،4% بينما المعدل العالمي كان 1 ،2%. بينما سقطت بقية الارقام في مؤشرات التنمية الانسانية.
وفي دلالة الارقام.. الخبر اليقين..!، فازدياد ثروات الاغنياء لم يواكبها تنمية بشرية وزيادة في الانتاج المحلي، ولم تكن نتاج ارتفاع تصاعدي في معدلات الانتاج.. وقد تتميز هذه العلاقة العكسية بين التقريرين بخصوصية شرق اوسطية «عربية»، وقد تفسر بصورة غير مباشرة ظواهر الفقر والبطالة والمرض، وغيرها من الارقام التي سقطت بمراحل تحت المعدل العالمي.. ولا يمكن تصور حجم الهوة في عالمنا العربي بين الفقر والغنى الا من خلال تلك المفارقة بين نسبة ازدياد الاغنياء في تقرير الثروة العالمية وبين نسب تصاعد معدلات التخلف والفقر في تقرير التنمية البشرية، وذلك الفارق الهائل بين حدي الغنى والفقر «حسب المعايير الدولية».. فالثرى حسب تقرير الثروة العالمية الاخير هو من يملك ثلاثين مليون دولارا، بينما الفقير حسب مؤشرات البنك وصندوق النقد الدوليين هو من لا يتجاوز دخله دولارين في اليوم.. مما يعني ان نسبة ازدياد عدد الاغنياء جاءت على حساب انحدار معدلات التنمية البشرية عندما تتحدث الارقام.
|