يقول ابن الجوزي في كتابه الذي يُدهش ويُعجب «المُدْهش»: واعجباً لبُلْبُل الفِطْنَة كيف اغترَّ «بفخِّ الفتنة»؟، مَنْ حدَّق بصره إلى طرف الدنيا، طُرِفتْ عَيْنُه، ومن أصغى إلى حديث الهوى، أورثه الصَّمم عن النصائح، خسَّتْ هِمَّةُ فرعون، فاستعظم الحقير {اليس لي مللك مصر}؟؟، يا دَنيَّ النفس، حِمارُك ينهق من كفِّ شعيرٍ يراه، الدنيا كلُّها كجناح بعوضة، فما نِسْبَةُ مِصْر إليها، إنَّ صبيَّ الفهم يشغله لون الصَّدَفة، والمتيقظ يرى الدُّرَّة، يا هذا، إذا لاحتْ لك شهوة، فقفْ متدبراً عواقبها، وقد بردتْ حرارة الهوى، فبين النجاة والهلاكِ صَبْرُ فُواق».
حروفٌ من نورٍ يطرِّزها ذلك الواعظ الكبير، على عادته في صياغة الكلمة العربية المشرقة، بنور الإيمان، المتزيِّنة بحُليِّ البلاغة العربية والبيان. واعجباً.. صيغةٌ تَلْفِتُ النظر، وتستوقف الفكر، إذا رأيتَها مكتوبةً أمامك، أو سمعتَها في حديث متحدِّث، أو خطبة خطيب، فاعلم أنَّ وراءها أمراً يستحق منك التأمُّل، ويستوجب النظر. واعجباً.. من أيِّ شيءٍ ذلك العجب الذي بدأ ب «وَا»؟، إنَّه من وقوع طائر الفِطْنةِ المغرِّد في «فخِّ الفِتْنة» القاتل، إنَّ الفِطْنة تعني الذكاء والفهم وحسن التصرُّف، فهي جديرةٌ بأن تَحْذَرَ من الوقوع في ذلك الفَخِّ البغيض، والأجدر بصاحب الفطنة أن يكون شديد التنبُّه لكل فخٍّ يدعوه إلى الهلاك، فإذا وقع بلبلُ الفطنة المغرِّد في ذلك الفخِّ، كان الأمر عظيماً، مستحقاً أن نقول معه ما قاله ابن الجوزي «واعجباً». وهل تكون الفتنةُ على اختلاف أنواعها إلاَّ فخَّاً قاتلاً؟ وهل يكونُ الاغترارُ بها إلاَّ نتيجةً من نتائج الغفلة، أو الهوى والشهوة، وسبباً من أسباب الضَّياع والهلاك، وهنا تبرز مُشكلة المشكلات التي تُثير ما يحجب الحقيقة من الأتربة، وما يُعمي البصيرة من ظلمات الهوى والشهوة، فما يبقى للعقل البشري بعد ذلك مجالٌ للاستماع إلى رأي عاقل، أو نصيحة ناصح، «من أصغى إلى حديث الهوى، أورثه الصَّمم عن النصائح»، وإذا كان ابن الجوزي رحمه الله قد ضرب لنا مثلاً بفرعون الذي أضلَّه هواه، فأهلك نفسه بادَّعاء الرُّبوبيَّة لأنَّ له مُلك مصر، وما نسبةُ هذه البُقعة من الكرة الأرضية؟، بل من الدنيا كلِّها التي لا تساوي عند الله جناح بعوضة؟!
أقول: إذا كان ابن الجوزي قد ضرب لنا مثلاً بفرعون، فإنَّنا نرى في حياتنا كما رأى من قبلنا، وسيرى من بعدنا، رجالاً يعميهم بريق الباطل، عن وجه الحقيقة المشرق، فينساقون وراء أهوائهم ظانِّين أنهم يسيرون إلى النجاة، وهم يسيرون إلى الهلاك، ويُوغلون في دروب هواهم حتى يصلوا إلى درجة «الصَّمم» التي لا تسمح بوصول ما يسمعون من النصائح إلى قلوبهم وعقولهم.
واعجباً، من مصارع الشهوات، ومهالك الشُّبُهات، كيف يقع فيها مسلمٌ يتلو كتاب الله، ويقرأ أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويطّلع على ما نقله التاريخ من تجارب وقصص وأحداثٍ لا يغفل عن عبرتها وموعظتها إلا مَنْ فقد البصيرة، وغاص في أوحال الأوهام.
إنَّ «فخَّ الفتنة» لا يرحم من يقع فيه أبداً، وإنَّ العاقل مَنْ يتدبَّر الأمور خير تدبُّر، ويتأمَّل آثارها وعواقبها على دينه، وأمته، ومجتمعه ونفسه قبل أن يغوص في أوحال الفتن، وقبل أن تشتعل الشُّبهة والشهوةُ في القلب والعقل، فما يُطفئها إلاَّ دمُ صاحبها حيث لا ينفع التراجع، ولا يجدي النَّدم، وصدق ابن الجوزي «فبين النجاة والهلاك صَبْرُ فُواق»، أي أنَّ الفاصل بين الحق والباطل، وبين نجاة الإنسان وهلاكه صبر لحظة واحدة، فالفُواق هو الوقت القصير بين حَلْبةِ الناقة الأولى والتي تليها، فإما أنْ يصبر الإنسان صَبْر العاقل الواعي، قبل الاندفاع في دروبٍ مهلكة وعند ذلك سيرى النجاةَ تُشرق أمام عينيه، وإما أنْ يستعجل، ويستسلم لشهوته وهوى نفسه وعند ذلك سيقع في «فخِّ الفتنة» الذي لا يرحم من يقع فيه.
وهنا يحسن أنْ ننبِّه أنفسنا أوَّلاً، وأولادنا ثانياً إلى ضرورة الفطنة والوعي في مواجهة أحداث هذا العصر وفتنه الهوجاء، فما كلُّ من تظاهر بالنُّصح يكون صادقاً في نصحه، ولا كلُّ من أعطاكَ من طرف اللسان حلاوةً يكون صادقاً في حبِّه لك، ولعلَّ من أفضل ما نواجه به الفتن والشبهات «الوُضوح» الذي لا يسمح للأوهام أن تتسلَّل إلى العقول، وهنا يبرز دور التربية الإسلامية الصحيحة التي تُنشىء أجيالاً سليمة معافاةً صحيحة النظر، واضحة التفكير، خاليةً من العُقد النفسية التي تجعل الإنسان مضطرباً متوارياً، قابلاً للانحراف والانجراف في طريق التفريط الذي يُبعده عن ربِّه ودينه،
أو طريق الإفراط والغلوِّ الذي يُبعده عن المنهج الصحيح لدينه الحقِّ، ولا شك أنَّ دُعاة الطريقين من شياطين الإنس والجنِّ يقفون على حافِّتيهما ينتظرون التَّائهين. التربية الإسلامية الواعية القائمة على غرس شجرة الثقة في النفوس، ونشر صفاء الإسلام ونقائه بين الناس كفيلة بإذن الله بأنْ تنقذ بُلْبُلَ الفِطْنَة من الوقوع في «فَخِّ الفتنة».
إشارة:
وإذا أهدرتْ كريمةُ أصلٍ
أصلها، لم يَعُدْ بلطم الخدودِ
|
|