تتجلى ظاهرة الاستبداد في المجتمع العربي في صور سلطوية متعددة، تهيمن على أفراده وتدعي العصمة، وترفض النقد والمراجعة، وتبرز مظاهرها في أنماط مختلفة، منها الاجتماعي والديني والسياسي، والاخير هو الظاهرة الذي لا يستطيع أي كان أن يمس طرفاً لها، والسلطة بكل أنماطها في المجتمع تزعم امتلاك المعرفة النهائية والجواب الأخير اللذين لا يأتيهما الزلل من أي اتجاه. ومظاهر الاستبداد تحرم تماماً مناقشة طبائعها كعوائق متجذرة في تاريخ الشرق، فعلى الصعيد السياسي تتجلى الظاهرة في قدرتها على منع أي نقد موجه لها أو مساءلة، وتلجأ أحياناً إلى الإقصاء في حالة تعارض المصالح، وكذلك على الجانب الديني، تصد تروس التكفير والتبديع والتضليل سهام النقد وتأثير القراءات الجديدة.ولكي نستطيع تحديد عمق تلك الهوة التي تفصل الشرق عن الغرب فيما يخص طبائع الاستبداد، فلا بد لك أن نتوقف عند بعض المحطات، التي لاتلبث إلا أن تعود مشاهدها على هامش أحداث السياسة الغربية، مما يحفز حاسة تأمل تلك الأسوار العالية التي ما زالت تقف ضد تجاوز أقدم واعرق عقبة في تاريخ الشرق، ألا وهي طبيعة الاستبداد، فما يحدث مثلاً من جولات بين رئيس وزراء البريطاني توني بلير وقناة البي بي سي، يمثل أحد وجوه الحياة الديموقراطية وإحدى قنوات حرية التعبير المسئولة، وأهم عوامل إذابة جليد السلطة إذا تجاوزت حدودها في شمال الكرة الأرضية، أوهو المستحيل.... الذي يصعب تصور حدوثه في جنوب الأرض، وما يؤديه الإعلام في شمال الكرة الأرضية من أدوار حيوية، شاهد على حال الإعلام العربي المتردية، فإعلام الغرب يكفل حقوقه دستور مكتوب، ويحمي مؤسساته ويسهل مهامه لأداء مثل هذا الدور الحيوي في الحياة المدنية، قانون فعال، مما يجعله قادرا على رفع القضايا الشائكة، ومساءلة الحكومة التي على رأس السلطة بدون الخوف من تبعات تلك الخطوة.. بينما يدور الإعلام العربي تائهاً في حلقات الرعب من السلطات في المجتمع منذ عشرات السنين..
فالمعارك التي تقوم رحاها على ساحة العمل السياسي البريطاني بين حين وآخر دليل لا يمكن التغاضي عنه على تفوق الغرب الحضاري وقدرته الباهرة على تحمل مشاق الصراع السياسي، مهما التهبت حناجرنا صراخاً بصوت الحق الذي نؤمن به، وما تشكيك القناة في مصداقية توني بلير وبالمبالغة في تصوير التهديد الذي تشكله قدرات التسلح العراقية في الفترة التي سبقت الحرب على العراق بهدف تبرير شن تلك الحرب، إلا دليل متجدد على اتساع الفارق على أرض الواقع بين الشمال والجنوب.. ومن يريد أن يدرك مدى هوة ذلك الفارق بينهما، عليه أن يرصد ذلك الدور الفاعل الذي تقوم به البي بي سي في مساءلة رئيس الوزراء البريطاني، وتلك التحقيقات التي تتسابق على عرضها قنوات الفضاء العربية ووسائل الإعلام المقروء في العالم العربي عن أحد وجوه الاستبداد العربي بعد زواله، فحجر الزاوية الرئيس في الموضوع يكمن في أن ما تقوم به البي بي سي، وما نشاهده على شاشات القنوات العربية هو طرفا النقيض في تاريخ الإعلام الحديث.فالنقد البناء والمساءلة القانونية الحية التي ترفعها البي بي سي ضد السيد صاحب السلطة التنفيذية المعاصر بلير يقابلها على الشاطئ الجنوبي جلد غير قانوني في جسد نظام متوفى ومنتهية صلاحيته وسلطته منذ سقطت بغداد في أبريل الماضي، وجلد الميت لا يشعر بألمه إلا المشاهد، وإن مزقت جسده أمضى سيوف الإعلام تحليلاً وأقسى رماح النقد طعناً.. قد يكون الغرض من عرضه واجترار تكرار مشاهده ضرباً من ضروب الإثارة الإعلامية ومزيداً من الدعايات التجارية في الزمن الميت بعد السقوط، والإصرار على تكرار عرض جرائم النظام السابق بعد سقوطه يخلو من أي مسئولية قانونية، فلم تعد في تفاصيله المؤلمة إلا العبرة والعظة وترديد تلك المقولات السلبية مثل «لك يوم يا ظالم»، ومن يظلم يتسلط عليه من هوأكثر منه ظلماً.. وهكذا
وهذا لا يعني على الإطلاق أننا ضد عرض مثل هذه المشاهد، فمشاهدة فظائعه قد تكون درساً لمن يريد أن يعتبر، ولكن إذا توقفت رسالة الإعلام العربي عند جلد جذور الفساد والاستبداد بعد فنائها، فقد يعني هذا أمراً آخر، وهو ان النسق العربي القديم الذي أبدع في جلد الذات «الميتة» مازال يسري بنشاط في شرايين الفكر العربي والإعلام المعاصر، وهم مصاب منذ القدم بمرض عدم وضوح الرؤية في حياة الدكتاتور، أوفي مجتمع الاستبداد الذي ما زالت تسري في أعضائه الحياة، ولا يمكن أن تتحسن الرؤية لديه في ذلك المجتمع السلطوي، إلا إذا سقط المستبد، عندها تنقشع الغمة وتخرج تقارير مصادره المتنوعة، ويبدأ مسلسل تفاصيل الحقبة المنصرمة، وجلدها بما اقترفت من جرائم شنيعة، في حين تختفي تلك القدرة على الرؤية تماماً في الإعلام العربي عندما تحدث جرائم جماعية واستبداد سياسي من نظام آخر لا يزال على قيد الحياة.
كذلك برزت تلك النظرة الماضوية لجلد الذات، عندما انتهت فترة الحقبة الناصرية، فالمجلات والكتب التي شرَحت عصره المنتهي ظهرت على السطح بعد أن حدثت النكسة، وبعد امتناع غير مبرر أثناء الحقبة الناصرية عن نقد تجربة عشرين عاماً من الاستبداد، وشيء من هذا يحدث الآن، فنيران بعض الأقلام العربية تشتعل ضراوة ضد الفكر الديني، والسبب أن الفترة الحالية تشهد حالة انحسار للمد الإسلامي، وهكذا دواليك تستمر الحالة العربية، تئن كالمريض في حالة وقوع الاستبداد، وتزأر كالأسد إذا هوى صنم الدكتاتور، الذي تتعدد صوره في عالمنا وتختلف، فقد تتشكل في هيئة السياسي، او الاجتماعي أوالديني وغيرها من صور القمع المتجددة.. هي بالفعل حالة مرضية تدعو للمراجعة، وهروب من الواقع تفقد بسببه تلك الوسائل احترام الإنسان في المسجد والمعمل والمصنع والمكتب والشارع، فتهتز الثقة بها، برغم أنها تحاول أحياناً أن تخفي غيابها التام بافتعال تقارير ومشاهد مخيفة عن مرحلة منتهية، بينما هناك من الإشكاليات والإخفاق والاستبداد في المرحلة الحالية ما يكفي لبث برامج سياسية على مدار الساعة.والإعلام العربي خرج من عباءة المحافظة منذ زمن غير قصير، فبرامجه تزخر ضمنياً بدعوات التحرر الاجتماعي، والحرب ضد المحافظة ما زالت جارية منذ مدة ليست بالقصيرة، ولكنها تختلف عن شبيهاتها في عالم الشمال، فسياسة التحرر الإعلامية العربية تجارية بحتة، ودور المرأة في تلك القنوات لم يتعد دور العلامة التجارية، ومهما تشدق بعضهم من أننا نمر في مرحلة الإعلام الليبرالي المتعدد الأغراض، فإن الصورة الظاهرة للجميع هي العكس تماما، فهي عند البعض إحدى حلقات الاستبداد الجديدة، ودليل ذلك أننا لم نسمع منها برامج تتبنى قضايا الإنسان العربي المعاصر، الذي تنتهك حقوقه الطبيعية في بلاد عربية عديدة، ولم ن
شاهد على شاشتها ما يدل على أن الإصلاح يعني استيفاء حقوق المواطن الدستورية واحترام اختياراته.
وهذا الواقع يستوجب على الإعلام الجديد ان يخرج من دوائره المغلقة، لكي يؤدي الدور المأمول كما هوالحال في الغرب، وأن يساهم هذا الإعلام «المتطور» تقنياً في دفع عملية الوعي، من أجل احترام أفضل لحقوق الإنسان في الشرق، مما يخفف حدة التوتر وسلوك العنف، ويؤهله للدفاع عن قضاياه النزيهة بالوسائل السلمية، والمتحضرة التي ستساعد حتماً على توصيل رسالته السامية وإزالة العوائق التي تقف ضد طموحاته، فالعمل على تحريره التام من كل أنواع السيطرة والاستبداد والإكراه الخارجي «دولة، جماعة، فرد»، هوأحد أهداف اعلام مسئول من المفترض أنه يبث في عالم أكثر تطوراً بمراحل من ذي قبل، ويعمل في زمن دخل القرن الواحد والعشرون عبر بوابة الإنجازات العلمية المتقدمة والحقوق الإنسانية غير المسبوقة.
|