المخاض الكبير الذي قلب أوضاع القطب الواحد، بكل مايملكه من سطوة، وما يقوم عليه من مؤسسات: دستورية وتشريعية، تحول معه إلى دولة نامية مغامرة. هذا المخاض المذهل إذهال سقوط المعادل، تبعته مخاضات عديدة، وضعت أجنتها المشوهة المخيفة في بقاع كثيرة من العالم الثالث، أدت إلى تعرضه لفراغات دستورية، وإلى انقسامات طائفية وإقليمية وعرقية، هيأته لانفجارات مدمرة للقيم الحسية والمعنوية. فكان أن استفحلت فتن قائمة، واستيقظت فتن نائة، وتعطلت خطط تنموية، أدتْ إلى البطالة والعجز والمظاهرات والصدامات، بحيث أفقدت كثيراً من السلطات شرعيتها، وشرَّعت الأبواب لكل الاحتمالات السيئة. وما من حدث أو حادث إلا ويقوَّم من خلال أنساقه وسياقاته، فإذا كان مستغربا في زمان أو في مكان، فليس من اللازم أن يكون كذلك في زمان أو في مكان آخر. والغرابة أو الاستغراب حالة نسبية، يستعظم الحدث قوم، ويستصغره آخرون. وليس هناك ما يمنع من أن نضرب الأمثال بالتفجيرات التي تعرضت لها البلاد، وأدهشت القاصي والداني، ذلك أن السمة العامة تمثُّل المواطنين لأمر ربهم، وانسجامهم مع قيادتهم، واعتقادهم بأن الإنسان في سعة من الأمر حتى يصيب دماً حراماً. وفي المقابل فإن الدولة قوية بأجهزتها الأمنية، وسطية بمؤسساتها: التعليمية والتربوية والدينية والدعوية، وذلك مكمن الغرابة. وما أصاب البلاد من تفجيرات، هدَّمت المساكن، وقتلت المعصومين، وأخافت الآمنين، وما تعرضت له من متطرفين في التصرف، وغالين في الدين، ترك آثاراً نفسية سيئة، وأثار تساؤلات عصية، ونبه المواطن والمقيم والمسؤول إلى ثنيات حدودية وذهنية غفل عنها حماتها من باب الثقة أو من باب غفلة المؤمن، فكان الانحراف في التفكير، والتشفي بالتفجير. هذه المقترفات غير المألوفة، وغير المتوقعة في بلد أذن الله أن ترفع فيه راية التوحيد، وأن يُقام في ربوعه حكم الله، اقتضت ضرورة التفكير في الخطاب: الديني والسياسي والتربوي والأمني، وكشفت للعالم عن متانة الجبهة الداخلية، وعن قدرة رجال الأمن على تصيُّد أفراد الخلايا الواحد تلو الآخر، كما أكدت نكارة الفعل وشذوذه. {فّعّسّى" أّن تّكًرّهٍوا شّيًئْا وّيّجًعّلّ الله فٌيهٌ خّيًرْا كّثٌيرْا} و(رب ضارة نافعة). ولكن بقي ان نسأل أنفسنا،: لماذا؟ وكيف؟ وعلى يد من؟ ولمصلحة من حصل كل هذا؟ وهل هذه الخلايا النائمة أو المستيقظة كانت ناتج تقصير في الرعاية، أو في الوقاية، أو نقصاً في الكفاءة أو في الكفاية؟ وهل هي جماعات ذات مرجعية واحدة أم هي أمشاج تنجم هنا وهناك؟ وماذا يريد هؤلاء الذين لايملكون إلا لغة القتل الهمجي؟. إن علينا أن نواجه أنفسنا بشجاعة، قبل أن نقف وجهاً لوجه أمام واقع لاينفع معه تساؤل ولا عتاب، بحيث يسبق السيف العذل. فما لم نواجه أنفسنا بمزيد من الأسئلة، أصبحنا مهيئين لفعل إرهابي أكثر ضراوة، وأقوى شراسة، وأوسع تدميراً وإهلاكاً وإخافة. ولقد قالها مسؤول الأمن، محملاً الآباء مهمة المتابعة لأبنائهم، من خلال تصرفاتهم وخلطاتهم ووجهة سفرهم. ورهاني الذي لا أحيد عنه، يعد ما حصل بقايا لعب كونية، وفلول مقاومات أسهم الغرب في صناعتها، ولم يحسن تفكيكها، فهو الذي دعم الجهاد والتكفير للإجهاز على الماركسية. وواجبنا في ظل هذه الظروف وفي ظل كل القراءات أو التصورات ألا يكون أحد فوق المساءلة والمحاسبة والنقد. وحاجة المؤسسات الفكرية والتربوية والأمنية أمام هذه الأوضاع إلى العارفين الصادقين لا إلى الخليين المصدِّقين، وإلى المجربين لا إلى الحفظة، وإلى فقهاء الواقع لا إلى نقلة أحكام الوقائع. والحدث حين يبديه المسؤول الآمن أو المنشغل بما دونه، يعطيه الانذار الأول، ليأخذ حذره، وينفر بكل ما أوتي من عدد وعدة، لتلافي أيِّ نقص في الآلية أو في المنهج أو في الكفاءة. ومن أحسن الظن، وأمن مكر الأعداء، واتخذ السلامة عادة، فجأته الحوادث، وهو غارق في الثانويات من المسؤوليات، أو ملق أعباءها على من لايحسن حملها، فنحن في يوم له ما بعده، وأيُّ خطأ في التوقيت أو في التقدير يكون غلطة معلم. والدور الآن لرجل الفكر والتربية والتعليم والأمن، ومن خلفهم ومن بين أيديهم المواطن، بحسه وإحساسه، ونظره الثاقب، وملاحظته الدقيقة. وفي النهاية: إذا الإيمان ضاع فلا أمان... ولا دنيا لمن لم يحي دينا {$ّمّن يّتَّقٌ پلَّهّ يّجًعّل لَّهٍ مّخًرّجْا} و(اتق الله يحفظك) والأمن عصب الحياة، وإكسير الرخاء، ومادة الاستقرار، وماء النماء. وبئست حياة وجلة خائفة مترقبة. واختلال الأمن مؤذن بنشوء مجتمع متوحش، يستمرئ الغدر والقتل والسلب والنهب، كما أنه مهيء لقيام كيانات طائفية، أو إقليمية، أو عرقية، بحجة حماية نفسها. وإذا تعددت مراكز القوى، كشف الإرهاب عن وجهه الكالح، وكشر عن أنيابه، وخرج من سراديبه إلى وضح النهار، ووجد الأعداء سبيلهم لتصفية الحسابات، واقتسام الغنائم، والسعيد من وعظ بغيره. ومن استبعد الممكن أخذته المآزق من كل جانب. وكيف يستبعد العقلاء الفتن، والشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، والنفوس الأمارة بالسوء تجتال أصحابها، والإنسان ظلوم جهول، عجول هلوع جزوع، مناع للخير معتد أثيم، إلا من عصم الله، وقليل ماهم، والدور الأهم في مثل هذه الظروف للمواطن، لأنه الهدف الأهم للاختراق. والمملكة بما وهبها الله من إمكانيات: حسية ومعنوية، وأموال مدحوة في الأرض، أو منتشرة على سطحها، أو متداولة في الأيدي معرضة لكل الاحتمالات، على حد: (كل ذي نعمة محسود) وإذا كان من واجب أمريكا أن تسأل نفسها: لماذا يكرهها الناس؟ فإن من واجبنا أن نضاعف الأسئلة، بحيث نتساءل: لماذا نحسن إلى الناس، ويسيؤون إلينا؟ ولماذا نعطي عطاء من لايخشى الفقر، ولا نطلب من عطاءاتنا المتدفقة جزاء ولا شكوراً، ثم نفاجأ بأذية تطال أمننا واستقرارنا؟ نتجرع مرارات الاحتمال والمدارات، ونحن نرى الجناة ينوسون من حولنا، وقد نأخذهم بالأحضان. لقد كشفت المطاردة الأمنية لفلول الإرهابيين عن أسلحة ومتفجرات وإمكانيات، لا يمكن ان يكون وراءها أفراد جهلة عزل، وكشفت المتابعة الفكرية عن معتقدات لا يمكن أن تكون وراءها تربية محلية، ونفاذ هذا العتاد الرهيب لن يكون بتدبير محلي، وتكرس هذه المفاهيم المنحرفة لايمكن أن يكون ناتج علم سلفي. إن وراء هذا الكم الهائل من وسائل التدمير ما وراءه، ووراء هذه الرؤى والتصورات والقناعات ما وراءها، ومهما حاولنا التكتم، وابتلاع المصائب، من باب العفو والصفح والصبر فإن التساؤل سيظل قائماً. وها هي بعض الوسائل الإعلامية تُشير بأصابع الاتهام إلى تعاون بين (القاعدة) و(الموساد) في سبيل زعزعة الأمن في المملكة، وليس ببعيد أن يتحالف أصحاب المصالح مع الشيطان، لتحقيق أهدافهم. غير أن مجرد الإحالة إلى جهة أو جهات لايشفي صدور المتسائلين، إذ لابد من فتح ملفات كل قضية، وتقصي أسبابها ومساءلة أطرافها، لا للمحاسبة وحسب، ولكن لسد الثغرات، وحفظ الثنيات. وها هي التقارير الأمريكية تضعنا في قائمة المسؤولين عن التفجيرات. وها هي المداولات في مجلس الشيوخ الأمريكي تتحول إلى جدل حول المملكة ودعمها للإرهاب. كل ذلك ومثله معه لم يأت اعتباطاً، وعلينا أمام كل حدث أو تآمر ان نقوِّم أداءنا: الفكري والتربوي والأمني والإعلامي، وأن نأخذ احتياطاتنا، فإذا تألقنا في المواجهة الأمنية، ولم نتألق في الوقاية، كان ذلك من نقص القادرين على التمام. وإذ نواجه تحديات في عقر دارنا، قوامها السلاح الفتاك، والتنازع حول الثوابت والمسلمات: الفكرية والسياسية والدينية، فإننا نكتشف بين الحين والآخر أطرافاً ضالعة في المكر والمكيدة، تبدي أعناقها عبر الصحف والقنوات والمحافل، ثم لا تجد من يرد العوادي. وما دام لنا ثقلنا العربي والإسلامي والعالمي، ولنا وزننا الاقتصادي، وعمقنا الجغرافي والسكاني، وثقلنا السياسي، وحضورنا الفاعل في المحافل كافة، ولنا تأثيرنا على كثير من القرارات فإننا سنظل مستهدفين، ولكن ليس بهذا المستوى المخيف، إننا نقبل الحرب الباردة، وقد نضطر إلى قبول المنابذة على سواء، أما الممارسة الإرهابية بهذا الحجم وبالدوافع الدينية كما يراها المنحرفون فأمر يحتاج إلى مزيد من التقدير والتفكير، فنحن أبناء الدين وحماته ومظهوروه ومحكموه، ولسنا بحاجة إلى من يجلب التمر إلى هجر، ولا إلى من يبيع الماء في حارة السقائين، وسلفيتنا واكبت الحضارة، ومدت الجسور، وجنحت للسلم، وانتزعت ثقة العالم وإكباره، وعلماؤنا هم علماؤنا، ومنهجنا هو منهجنا، فأين إذاً مكمن الخطر، والثقة والشك يجب أن يكونا في محلهما: ووضع الندى في موضع السيف بالعلا... مضر كوضع السيف في موضع الندى وعلى كافة مؤسساتنا أن تكون في مستوى قامتنا وأحداثنا. وإذ نكون الأحسن في سياقنا العربي، فإننا سنكون الأكثر استهدافاً للخطاب الإعلامي النفعي، والأكثر تعرضاً للعمل الإرهابي. إن هناك شفرات لما تزل بحاجة إلى تفكيكها، ففئة تحاربنا لأننا أشداء على الكفار رحماء بيننا، وأخرى تحاربنا لأننا أولياء للكافرين، وثالثة تتهمنا بالإضرار بقضايانا المصيرية، ورابعة تضع العراقيل في طريقنا لأننا مع القضايا المصيرية. الصهيونية ضدنا، والإرهاب ضدنا، والشارع الأمريكي ضدنا. والأدهى والأمَرّ أن طائفة من إعلاميي الاغتراب ومفكريه، يفترون الكذب باتهام البلاد وأهلها بالتواطؤ ضد مصالح الأمة العربية أو التخاذل والتخذيل في قضاياها المصيرية، وتشايلهم مع المحافل الصهيونية التي تطالب بتطبيق أقسى العقوبات على البلاد وأهلها، مثار شك وارتياب، ومما يعمق الشك أننا نجد طوائف من المتعالمين والمتغالين يروننا دون المستوى المطلوب في الامتثال الديني، وفي مقابل كل ذلك نجد أن كل الممسكين بأزمة الأمر الفلسطيني، تتلاحق اعترافاتهم بأفضال البلاد وأهلها، ونجد المؤسسات السياسية الأمريكية جادة في تبرئة المملكة من الضلوع في العمليات الإرهابية، ومع أننا لا نزكي أنفسنا، ولا نباهي بفعلنا، إلا أننا نعجب من هذا التناقض الصارخ، وما من أحد سأل نفسه عن هذا التناقض، مع أنه شاهد عدل، وليست الاشكالية فيما يقال عبر الصحف والقنوات من فلتات ألسنة تدل على ما تخفي الصدور، مما هو أكبر، فذلك مدفوع الثمن، ولو شئنا لقلبنا المعادلة، وحولنا المهاجمين إلى مدافعين، فالمسألة مطروحة في سوق النخاسة البلاغية، وإنما الإشكالية في سرعة الاستجابة، وفورية التصديق، وكأن المستزِّلين حذاق في التنويم (المغناطيسي).
|