* يلازمني هاجسُ الفخر بالانتساب إلى مدينة شقراء، أباً وجدّاً، وأعماماً وعمّاتٍ وأبناء وبنات عمّ، وأن أشاطر أهلها الكرام أعراسها الجميلة بين حين وحين! أقولُ هذا رغم عقوقي غير المقصود تجاه هذه المدينة وأهلها بسبب أولويّات العيش وتكاليف الحياة!
***
* لم أرَ النور في شقراء، مسقط رأس سيدي الوالد - رحمه الله -، فقد ساقه القدر الجميل قبل نصف قرن إلى منطقة عسير مبعوثاً في مهمة رسميّة إلى حليف صقر الجزيرة الملك عبدالعزيز - طيّب الله ثراه - عميد أسرة (أبو ملحة) وشيخها الكبير المرحوم عبدالوهاب أبو ملحة، وقد ظنّ والدي بادئ الأمر أنّ مهمّته تلك لن تستغرق إلا أياماً معدوداتٍ، فإذا بها تمتدُّ شهوراً، ثم تتواصل إقامته بعد ذلك في أبها سنين، ويشاءُ الله أن يقترن والدي - رحمه الله - بامرأةٍ فاضلةٍ من تلك المنطقة الجميلة تنتمي إلى واحدة من أكبر القبائل العسيرية وأغناها سمعة ونسَباً وجاهاً، وهي قبيلة (بنو مغَيْد)، وتكون تلك المرأة الخيّرة لي أُمّاً، وأحلّ في ظلِّهما ضيفاً على الحياة هناك، وأُمضي شطراً من سنوات الطفولة بين مراعي قرية (مشيّع) وحقولها.. والدروب الجبلية العسيرية العسيرة، جيئةً منها إلى المدرسة في أبها وذهاباً!
***
* كان الغرضُ من هذه المقدمة الخاصة التمهيد للقول بأن لشقراء - بأهلها و(قرائنها) و(قصورها) ونخلها وشعابها وتلالها - حضوراً جميلاً في نفسي لا يبلى.. وحظوةً أجمل لا تبُور، يؤصِّلهما الولاء الدائم لذكرى الآباء والأجداد، ثم الشعور بالتقدير للدور التاريخي الذي لعبته هذه المدينة وأهلها.. ضمن المشوار العسير الذي خاضه مُؤسِّس هذا الكيان الكبير، الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن - طيّب الله ثراه - حتى نال المجد الذي ساقه الله إليه، وكتبه له، وليس لي في هذا المقام ملَكةُ الحديث عن تاريخ هذه المدينة.. فتلك مهمة المؤرِّخين، لكن هناك ما يشبهُ الإجماع أنه كان لشقراء مكانةٌ متميّزةٌ لدى المؤسِّس المظفَّر عبدالعزيز!
***
* وأتذكّر في هذا السياق ما حدّثني به أكثر من مرة سيدي الوالد - رحمه الله - عن زيارات الملك عبدالعزيز لشقراء، وإقامته بقصر السبيعي العامر، نسبةً إلى مالكه العم المرحوم عبدالرحمن السبيعي، وهو القصر الذي بات الآن معْلماً حضارياً وتراثياً في المدينة، وفيه التقى سيدي الوالد لأول مرة بالمؤرِّخ والرحّالة اللبناني المعروف الأستاذ أمين الريحاني، صاحب الأسفار الشهيرة عن تاريخ (ملوك العرب).
***
* كان الأستاذ الريحاني يقيمُ ذات مرة في قصر السبيعي، مرافقاً للملك عبدالعزيز، وكان سيدي الوالد يتردّد على ذلك القصر بحكم صلة القُربى التي تربطه ببعض مَن فيه، إذ كانت والدةُ السبيعي الذائعة الصيت عمة سيدي الوالد، شقيقة والده رحمهم الله جميعاً. ويشدّ انتباه الريحاني حضور سيدي الوالد وذكاؤه، فيسأله مرةً عن مستوى دراسته، وكان وقتئذ في صدر صباه، فيردّ والدي بأنه يحفظ أجزاء من القرآن الكريم.. ويجيد شيئاً من الكتابة والحساب، ويعرض عليه الرحياني اصطحابه معه إلى بيروت للدراسة هناك حتى الجامعة.. لكن سيدي الوالد يشكر للريحاني مبادرته، مرجِّحاً البقاء في شقراء بين الأهل والأقران على الرحيل إلى بيروت!
***
* ولو كنتُ شاهدتُ ذلك اللقاء.. وكنتُ أعلمُ من أمر سيدي الوالد ما جهلتُه في ذلك الحين، لنصحته بالقبول، وإذن، لتعلّم، وصار له شأن، فقد كان يعشق الثقافة، فطرةً.. وكان يقرأ بصبر وجلد كلّ ما يقع عليه بصره من كتب السيرة والتاريخ والتراث، حتى غدا (مرجعاً) بين أقرانه وراويةً للتاريخ لا يُملُّ له حديث!
***
والحديث عن شقراء فاتنة الأمس واليوم.. لا يمكن أن يفغل ذكر واحد من أبرز أبنائها الأبرار، هو المرحوم بإذن الله العم الشيخ عبدالرحمن السبيعي، فقد كان من المقرّبين للملك عبدالعزيز - طيّب الله ثراه -، وكان في أكثر من مناسبة همزة الوصل بينه وبين أهالي المدينة ووجهائها، وله جهودٌ مشهورةٌ ومشهودةٌ شارك بها في تجهيز بعض حملات الفُتُوح التي انطلقت من شقراء، وقد عُرِفَ الشيخ السبيعي بدماثة الخلق، وكرم السجايا، وعذوبة اللسان، وله سجلٌّ حافلٌ بالنوادر والطرائف التي تنمُّ عن حكمة وظرف وسرعة بديهة، وله مقولات شهيرة ارتبطت بمواقف أو أحداثٍ أو أشخاصٍ، ذهب بعضها أمثالاً بين الناس!
***
وأتمنى بهذه المناسبة على من له اطلاع متخصِّص في تاريخ هذا الجزء من بلادنا، سواءً من أبناء شقراء أو سواها، أن يؤرِّخ لسيرة هذا الرجل الفذّ، إنصافاً لذكره من مظنّة الإهمال، وإنقاذاً لذكراه من متاهة النسيان!
***
وحين يُذكر الشيخ العم السبيعي - رحمه الله - بالحُسنى، قولاً وفعلاً، يرتد إلى الذهن ذكر والدته الطيبة الذكر العمّة حصة السدحان رحمها الله.. فقد كانت تجمع بين رقّة القلب وصلابة الإرادة، وهيبة الحضور، وكان لها دور جميل في خدمة مؤسِّس هذا الكيان الخالد، وقد كان لي شرف لقائها أكثر من مرةٍ في مدينة الطائف، وكنت وقتئذٍ طفلاً حديث العهد بتلك المدينة، فشملتْني - رحمها الله - بعطفها وعطائها ودعائها، وأنسَاني برُّها بي مرارة البعد عن سُدة الحنان، سيدتي الوالدة، رحمها الله!
|