في مساء يوم الثلاثاء 24/8/1424هـ احتفلت دارة الملك عبدالعزيز - برعاية كريمة من لدن صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبدالعزيز نيابة عن أخيه صاحب السمو الملكي الأمير عبدالله بن عبدالعزيز ولي العهد بمرور ثلاثة عقود من عمرها بحضور جمع كبير من المؤرخين والباحثين والدارسين والمحبين للتاريخ من أكاديميين ومثقفين وإعلاميين وغيرهم.
كانت ليلة جميلة ورائعة، ونحن جميعا نحتفل بتاريخ الوطن، ممثلا في دارة تحمل اسم مؤسس هذا الوطن، وتحتضن مستندات وشهادات وروايات تحكي - بصدق وأمانة - قصة قيام هذا الكيان السياسي الشامخ بقيادة الزعيم الموحِّد ورجاله من كل أبناء جيله جيل التأسيس الذين باعوا نفوسهم ودماءهم رخيصة في سبيل بناء وطن لتنعم الاجيال من بعدهم بقيمة وطن منحهم كل شيء بينما الجيل المؤسس منح كل شيء ليقيم كيان هذا الوطن.
إذا كانت ولادة الدارة قبل أكثر من ثلاثين سنة بقليل قد مرت في مراحل مختلفة من البناء والتكوين، وتعاقب على إدارتها عدد من الأسماء، وترأس مجلس إدارتها ثلاثة من الوزراء، كان أولهم الوزير المؤسس، الذي ولدت الدارة في عهده، ومنحها كثيراً من جهده ووقته، وبذل ما في وسعه للنهوض بها ذلك هو الشيخ الوزير حسن بن عبدالله آل الشيخ، حينما كان وزيرا للمعارف، ثم بعد ذلك وزيراً للتعليم العالي بحسب ظروف وامكانات تلك المرحلة. ثم خلفه الوزير الدكتور عبدالعزيز الخويطر، الذي كان الاكاديميون بصفة خاصة يعلقون آمالا بما هو أهم في نظره من الدارة، وأصبحت تأتي في درجة أدنى من الأولويات، لدرجة انها كادت تصبح نسيا منسيا. ثم خلفه الدكتور خالد العنقري وهو أستاذ جامعي، وابن البحث العلمي، فبذل محاولات للخروج بالدارة من سكونها، ولكن الظروف شاءت ان تبقى ساكنة وخلال هذه المراحل المختلفة من عمر الدارة تعاقب على مركز امانتها العامة خمسة أمناء، بدأت بأكاديمي متخصص في التاريخ الحديث وهو الدكتور محمد سعيد الشعفي، أول أكاديمي سعودي يحمل درجة الدكتوراة في التاريخ الحديث من بريطانيا. ثم انتهت بأمينها العام الحالي الدكتور فهد السماري، وهو أيضا متخصص في التاريخ الحديث من الولايات المتحدة الأمريكية، وبينهما ثلاثة أمناء من غير الاكاديميين، هم طامي بن هديف البقمي - دكتور فيما بعد، وعضو مجلس الشورى في الوقت الحالي - والاستاذ عبدالملك آل الشيخ، والاستاذ عبدالله الحقيل، وكانوا ثلاثتهم محل ثقة المرحوم الشيخ حسن آل الشيخ.
وإذا كانت ولادة الدارة قد بدأت بعام 1392 هجرية، فان ولادتها الحقيقية تزامنت مع بداية ترؤس سمو الأمير سلمان بن عبدالعزيز امير منطقة الرياض لمجلس إدارتها الذي منحها من وقته وجهده وإيمانه برسالتها ما أوصلها اليه في ليلة احتفالنا بدخولها عقدها الرابع، الذي اعتقد انها - بمقاييس الطموح لدى سلمان بن عبدالعزيز - لم تبلغ إلا الحد الأدنى وما ينتظرها في القادم حتماً هو الأفضل.
ارتبطت ولادة الدارة في عام 1392هـ بذكريات مسيرة حياتي الاكاديمية ففي ذلك العام كنت في السنة ما قبل الأخيرة في قسم التاريخ بجامعة الملك سعود، وكان طموحي أن أحصل على المعدلات المطلوبة التي تؤهلني للحصول على وظيفة معيد بنفس القسم وكان تركيزي في قراءاتي وتحصيلي العلمي منصبا على التاريخ الحديث، وكنت منبهرا بتطورات الاحداث التاريخية التي شكلت تاريخ القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين.
كنت مبهورا بشخصيات صنعت تاريخ تلك المرحلة، مثل بالمرستون السياسي والاستعماري الانجليزي العتيد الذي لم يشهد القرن التاسع عشر في تاريخ بريطانيا له مثيلا: وبسمارك موحد المانيا، وقبلهما نابليون بونابرت صانع اكبر انقلاب في التاريخ الحديث ومترنيخ السياسي النمساوي، الذي قوض كل احلام نابليون، ومحمد علي باشا الذي قلد نابليون في احلامه الأول في أوروبا والآخر في الشرق، ثم شخصية الملك عبدالعزيز اهم شخصية انجبتها الجزيرة العربية في القرن العشرين، هؤلاء الرجال كنت اعيش - من خلال قراءاتي - عصورهم مبهورا بأدوارهم.
تحقق ما كنت أطمح في الحصول عليه، وعينت معيدا في قسم التاريخ، وكان أستاذي الدكتور محمد سعيد الشعفي قد عين أول أمين لدارة الملك عبدالعزيز التي كان أحد أهدافها - ان لم يكن أهم أهدافها - هو الاعتناء بتاريخ المملكة في الدرجة الاولى والبدء في جمع مصادر تاريخ هذه البلاد المتناثرة بين ارشيفات ومكتبات العالم. أما وثائقنا الوطنية فلم تكن محل اهتمام الدارة في البداية، وتزامن قيام الدارة وقيامها بالاهداف التي أسِّست من أجلها مع اهتمام جامعة الملك سعود بآثار المملكة، فأحدث هذان الحدثان المرتبطان بتاريخ المملكة اهتماما جماهيريا بالغا، وأصبح الحديث عن الآثار ودارة الملك عبدالعزيز وتاريخ المملكة هي الوجبات المفضلة لدى الوسط الاكاديمي في كلية الآداب.
وكان الدكتور الانصاري يريد ان يستقطبني لجانب الآثار، ولكن القلب والعقل مفتونان بتاريخ القرنين التاسع عشر والعشرين ولم تمض سوى شهور قليلة من تاريخ تعييني معيدا إلا ويصدر أمر من معالي وزير المعارف ورئيس مجلس إدارة دارة الملك عبدالعزيز الشيخ حسن بن عبدالله آل الشيخ - رحمه الله - الى مدير الجامعة بتكليف المعيد المعين حديثا بقسم التاريخ بالذهاب الى تركيا، والالتقاء هناك بالسيد محمد امين التميمي - وهو من الباحثين التابعين للدارة ولوزارة المعارف - من أجل البحث في الارشيف العثماني عن الوثائق المتعلقة بتاريخ المملكة. وهناك في استانبول التقيت بالسيد التميمي - الذي يجيد اللغة التركية اضافة الى لغات اخرى - فأخذني الى الارشيف، ودامت تلك الرحلة الرائدة والرائعة في حياتي أكثر من ثلاثة اشهر بقليل، تمكنا في خلالها من تصوير عدد كبير من الوثائق تم ارسالها الى الدارة فكانت النواة الاولى لوثائق الدارة، واهم مجموعة عثمانية بها الى اليوم. من هنا ارتبطت الدارة في حياتي بذكريات جميلة، واعتبر ما شاركت في البحث عنه وتصويره من وثائق لصالح الدارة - وبالتالي لصالح الباحثين السعوديين - أول إنجاز بحثي في حياتي، وهذا بطبيعة الحال أمر لا يُنسى.
قبل عودتي من استانبول كان الشيخ محمد التميمي - رحمه الله - قد كلفني بحمل ثلاث رسائل وبها صور لوثائق نادرة تم الكشف عنها، تعود للدولة السعودية الاولى وعلاقة حكامها بالدولة العثمانية. الاولى للملك فيصل - يرحمه الله - والثانية لسمو الأمير عبدالله بن عبدالرحمن - يرحمه الله - كان الشيخ التميمي رجلا صعبا المراس شديدا في التعامل معه، الا انه رجل كريم ذو شخصية نافذة يعرف كيف يتعامل مع الاتراك. هذه الصفات سهلت مهمتنا ومكنتنا من التغلب على الروتين التركي الممل وقد كان دؤوبا مخلصا في عمله.
طلب مني التميمي أن أسلِّم الرسائل يداً بيد لهؤلاء الرموز الذين تعد مشاهدتهم عن قرب حلما لم يخطر ببال شاب في سني حينذاك أن يقف بين ايديهم وتنفيذا لرغبة الشيخ التميمي وتطلعا الى شرف اللقاء بالملك ذهبت بعد عصر ذات يوم الى رئاسة مجلس الوزراء الكائن بالقرب من حديقة خزان مياه الرياض والرغبة تدفعني الى مقابلة الملك فيصل، ولكن من جهة أخرى كان شعور من الرهبة يسيطر علي والغريب انني وجدت نفسي في مكتب الشيخ صالح العباد - رحمه الله - دون أن يسألني أحد، حتى أولئك الذين سألتهم عن مكان مكتب الشيخ العباد ربما ظنوا أنني من موظفي الديوان، أو ربما إنني انا الذي لم أعرف كيف نقلتني خطواتي، لأنني كنت مشغولا بهول المقابلة التي ستكون أهم مقابلة في حياتي.
سلَّمت على الشيخ العباد، وقلت له إنني أحمل رسالة خاصة من محمد التميمي، وطلب مني ان اسلمها للملك يداً بيد. فعرفت أن الشيخ العباد يعرف السيد التميمي، فقال لي إن أردت أن تسلِّمني الرسالة فاعتبرها وصلت ليد جلالته، وآن أردت تسليمها لجلالته فهو سيصل بعد قليل. وفعلا وصل جلالته بعد قليل - كما قال - ورأيت الملك رأي العين، ولكن الرهبة سيطرت عليَّ فآثرت تسليم الرسالة للشيخ العباد وفوُّت على نفسي اهم فرصة سنحت لي للسلام مباشرة على ذلك الملك العظيم - رحمه الله رحمة واسعة.
وفي صبيحة اليوم الثاني ذهبت لمقابلة الأمير عبدالله بن عبدالرحمن في قصره في حلة سلام واثناء وصولي إلى بوابة القصر لطلب الإذن من الحراس قالوا: سمو الأمير في طريقه للخروج، وسيمر من هنا بعد قليل، فوقفت انتظره وتوقف، فسلمته الرسالة بعد أن قلت له هذه الرسالة من السيد التميمي، ولم أكن أعرف بشكل دقيق موقف الأمير من بعض آراء السيد التميمي في بعض المسائل التاريخية التي كثيرا ما كانوا يتناقشون حولها ويختلفون فيها الا فيما بعد وتوقف سمو الأمير دقائق يتحدث عن التاريخ بعد أن عرف أنني طالب تاريخ، وحذَّرني من الاعتماد على من لا يوثق بروايته ولا بعلمه ومن المعروف ان الأمير عبدالله بن عبدالرحمن يعد من أكثر آل سعود اطلاعا ومعرفة بالتاريخ، خاصة تاريخ آل سعود وتاريخ وأنساب القبائل فقلت بيني وبين نفسي ماذا فعلت بي أيها التميمي؟
وفي اليوم الذي بعده ذهبت لمقابلة الشيخ حسن في مكتبه بوزارة المعارف، وسمح لي بالدخول عليه وكان في مكتبه عدد من الزوار او كبار موظفي الوزارة لا أذكر وسلمته الرسالة فطلب مني الجلوس، فجلست على كرسي قريب من مكتبه، وشرع يسألني عن تركيا، وعن الوثائق، فأخبرته ان الارشيف يا صاحب المعالي يغص بالوثائق المتعلقة بتاريخ بلادنا منها ما هو بالعربي ومنها الأكثر باللغة التركية. وقلت إن الكشف عنها سيحدث انقلابا فيما نعرفه من تاريخنا الوطني، وان البحث عن تلك الوثائق يحتاج الى كثير من الوقت والجهد والمال والعلاقات وكان قد قرأ رسالة التميمي بشكل سريع وقد كان يطلب - على ما يبدو - تسديد اجرة المسكن الذي يسكنه ويقوم فيه بضيافة المسؤولين الاتراك من اجل تسهيل مهمته، وخلق صداقات تنفع كل باحث سعودي في المستقبل ويبدو انه سبق أن طلب من الدارة ان تقوم بصرف ذلك المبلغ فرفضوا وقلت شهادة حق أن السيد التميمي مخلص، ويبذل كثيراً من أجل تسهيل الاجراءات لنا في الارشيف والمكتبات والمكتبات الخاصة وانه جدير بالحصول على مد يد العون المادي له لقاء كل هذه الخدمات.
فقال لي الشيخ حسن - رحمه الله - ان الكثيرين غير راضين عن السيد التميمي وطريقة تعامله معهم، وأنت أول واحد يختلف عن الآخرين في تقييمك للأستاذ التميمي، وسأعمل ما استطيع لمساعدته.
بعد ان سمع الشيخ حديثي عن الوثائق العثمانية واهميتها وحماسي للبحث عنها، وضرورة بعث اعداد من السعوديين للبحث عنها وتصويرها فقال: ستكون أنت الأول: وسنبعثك الى تركيا لاكمال دراستك هناك، وبذا تكون اول متخصص سعودي يذهب لدراسة التاريخ في تركيا. قلت له: يا صاحب المعالي ان بعثتي قد قررت الى الولايات المتحدة، وقد اكملت كل إجراءاتي وتغيير مسار بعثتي الى تركيا قد يسبب تأخيراً ربما عدة سنوات، ولكن اعدك ان تخصصي سيكون في التاريخ الحديث، وفي العلاقات العربية العثمانية، وستكون الوثائق العثمانية اهم مصادر بحثي. حاول - رحمه الله - اقناعي وطلب من الآخرين ان يشتركوا في اقناعي بعد ان اشركهم في حديثنا.
ولقد وفيت بوعدي للشيخ - رحمه الله - فكتبت رسالتي للماجستير عن علاقة منطقة عسير بالمصريين والعثمانيين في عهد محمد علي باشا، ورسالتي للدكتوراة عن علاقة الجزيرة العربية بالدولة العثمانية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وكان جل مصادر الاطروحتين هي الوثائق العثمانية التي كانت الدارة سببا فيها، ولهذا كان احتفال الدارة بتاريخ نشأتها هو احتفالي بتاريخ ارتباطي بالدراسات العربية العثمانية التي بدأت تماما مع بدايات إنشاء الدارة.
مما أثلج صدري في هذا الاحتفال تكريم كل من تعاون مع الدارة، خاصة اولئك الذين مدوا الدارة بوثائق ذويهم الذين عملوا تحت إدارة الملك عبدالعزيز - يرحمه الله - مثل ابناء حافظ وهبة، وابناء رشدي ملحس، وابناء السيد الكاظمي، وابناء السيد خير الدين الزركلي، وابناء الخيال والمرشد وغيرهم، ممن لا تحضرني أسماؤهم وأنا أكتب هذه المقالة بعد الانتهاء من الاحتفال مباشرة.
شكراً لسمو الأمير سلمان المؤسس الحقيقي لدارة الملك عبدالعزيز، وشكرا للمتبرعين بإيداع وثائق ذويهم في الدارة، وشكراً للقائمين على الدارة وعلى رأسهم الأخ الصديق الدكتور فهد السماري، وسيكون شكري وشكر المؤرخين السعوديين له مضاعفا إذا سهل لنا نحن جمهرة الباحثين والدارسين أمر الاطلاع على هذه الوثائق الخاصة في أقرب وقت ممكن حتى نتمكن من كتابة تاريخنا الوطني الذي ما زال ينقصه الكثير في غياب الوثائق الوطنية بشكل خاص.
ولكي تتحقق الغاية من الحصول على الوثائق، إذ لا قيمة لها إذا ظلت محجوبة عن الباحثين.
(*) عضو مجلس الشورى
|