للزمان حرمة في ذواتنا لايهتكها امتداد السنوات، وللمكان صداقة لا يفصم عراها بعد المسافات، وللسكان مودة لا تقطع حبالها جملة المؤثرات.
هذه العلائق وغيرها من سائر الوشائج قد لا يعرف كثير منا عمقها في القلوب، ومدى ارتباطها بالنفوس، وشدة وطأتها على شعور الإنسان إلا ساعة الرحيل عنها، أو انفصال عناصرها منه لسبب أو لآخر. وعلى قدر ابتعاد هذه العناصر عنا في الزمان والمكان يكون اقترابها منا في الوجدان، وبخاصة عندنا - معشر العرب - إذ أننا نقيم للعاطفة وزناً لا يتوافر عند سوانا من سائر الأمم الأجناس.
ولعل هذا ما يفسر طغيان الغنائية على معظم إبداعنا، وتلاشى ما سواها. إن للسنوات المسلوخة من دوحة العمر أو الزمن أسلاك خفية، قد لا ندرك كنهها، تشد الإنسان إليها ساعة قوته أو ضعفه، وسلاسل ذهبية تقيده بها، وتشل خطواته عن غيرها ساعة اندفاعه أو انحرافه، وربما كان سبب ذلك تعاملنا مع الماضي بعيداً عن المؤثرات السياسية والاجتماعية المغيرة نظرة الإنسان تجاه الواقع والوجود.
* بمنتهى المثالية وروح القداسة نتعامل مع الأزمان الغابرة، والأطلال البالية، بكل ما تحمله من موحيات ومعطيات، ذلك أننا - وبحكم الانسياق وراء عواطفنا المتضخمة - نكتفي بنقل الصور المشرقة والناصعة، واللوحات المضيئة من التاريخ، كما نتخيلها نحن، ويصورها لنا ميلنا وهوانا، ونجهل أو نتجاهل - في الوقت نفسه - القاتم منها، وندفنها مع الأجيال التي تاهت في تحديد معالمها حينذاك، فرضعت من مآسي ذلك الزمن، ونبتت قناتها منه.
* ومن حيث لا نشعر تأخذنا ومضات الزمن والتاريخ من واقع سيئ نحسه ونراه تعشو أبصارنا عنه، ولعل هذا ما نستشفه على سبيل المثال من واقع القراءة لقصيدة «محمود غنيم»، حين تطغى الآمال على الآلام، والأماني على المآسي ويتناسى منعطفات ذلك الزمن الذي غار عليه، والانتكاسات التي مر بها معاصروه، والحيادية التي يتعامل مها المؤرخون قل أن تجد مكاناً لها عند الأديب، يقول «غنيم»: (من وحد العرب حتى صار واترهم إذا رأى ولد الموتور آخاه وكيف كانوا يداً في الحرب واحدةً من خاضها باع دنياه بأخراه وكيف ساس رعاة الإبل ماسا سها قيصر من قبل أوشاه بالله سل خلف بحر الروم عن عربٍ بالأمس كانوا هنا مابالهم تاهوا فإن ترات لك الحمراء عن كثبٍ فسائل الصرح أين العز والجاه وانزل دمشق وخاطب صخر مسجدها عمن بناه لعل الصخر ينعاه وطف ببغداد وابحث في مقابرها علّ امرءاً من بني العباس تلقاه هذي معالم خرسٍ كل واحدة منهن قامت خطيباً فاغراً فاه الله يشهد ما قلبت سيرتهم يوماً، وأخطأ دمع العين مجراه).
وما سر ارتباط الإنسان بمكانه ببعيد عن عوامل تعلق الإنسان بعبق زمانه، والمرء بطبيعته وفطرته مدفوعاً إلى أماكن ذكرياته وايامه الهانئة، فالمنازل التي أظلته شرفاتها، والشوارع التي ألف السير عليها، والوقوف على منعطفاتها، والمدارس التي اختلف إليها وفتحت له ردهاتها، طبيعي أن يرسخ حبها في دمه، ويتغلغل إلى شغاف قلبه، وتنطبع رسومها في حدقة عينيه. وانسلاخ هذه العناصر عن الإنسان هو انسلاخ في واقع الأمر عن أشهى وأحب ما انهدر من فتوته وشبابه، انسلاخ عما كان يربطه بمزامنيه من روابط نسلت حبالها من خيوط السنين، حلوها ومرها. ولعلك تستجلي قدر ذلك التلازم والارتباط بين الزمان والمكان عن الإنسان حين تقف على إحدى روائع «أحمد شوقي»، التي نظمها في المنفى، يحن فيها إلى وطنه، واصفاً كثيراً من مشاهدها ومعاهدها التي اصطحبها مطلع صباه: لكن مصر وإن أغضت على مقةٍ عين من الخلد بالكافور تسقينا على جوانبها رفت تمائمنا وحول حافاتها قامت رواقينا إلى أن يقول: بالله إن جبت ظلماء العباب على نجائب النور محدواً «بجرينا» فقف على النيل، واهتف في خمائله وانزل، كما نزل الطل الرياحينا وآس مابات يذوي من منازلنا بالحادثات، ويضوي من مغانينا أرض الأبوة والميلاد طيبها مر الصبا في ذيول من تصابينا كانت محجلة فيها مواقفنا غراً مسلسلة المجرى قوافينا وحيثما نسير، أمامنا ووراءنا الزمان والمكان، من ضبابهما ننبثق، وفي ضبابهما نغيب.
* الإدارة العامة للتربية والتعليم بمنطقة الرياض
|