ارتبط لفظ الانتفاضة وشاع وتم تداوله من خلال القضية الفلسطينية. ورغم تخلل الصراع الفلسطيني عدة انتفاضات من قبل الشعب الفلسطيني في داخل الأرض المحتلة مثل إضراب عام 1936م الذي يعتبر نوعاً من الانتفاضة، إلا أن البداية الحقيقية للانتفاضة الفلسطينية كانت في ديسمبر عام 1987م والانتفاضة هي ردة فعل لشيء غير محتمل ومحاولة إزاحة هذا الشيء والتخلص منه بطرق غير معتادة. وهذا ما فعله الفلسطينيون فقد حاولوا التخلص من الاحتلال منذ بدء بالمقاومة المألوفة في الداخل من خلال السلاح ولكن الصهاينة طغوا على الفلسطينيين وراقبوهم واضعفوا امكانية مقاومتهم المسلحة. فلجأ الفلسطينيون إلى الاغتيالات الخارجية وتصارعوا مع الموساد.
وقد أصر الفلسطينيون على المقاومة الداخلية لأنها أجدى وأنفع ولكن بطريقة جديدة تميل إلى السلم أكثر من ميلها للعنف المسلح. وهكذا بدأت انتفاضة 1987م (انتفاضة الحجارة). ولكن لماذا انتفض الفلسطينيون وبهذه الطريقة بالذات؟
لقد أسهمت حرب عام 1948م في تهجير الفلسطينيين وإعادة توزيعهم بشكل عشوائي وكيفما اتفق ليعيش الكثيرون منهم في مخيمات سواء في داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة أو في البلدان العربية المجاورة. إن نصف السكان الفلسطينيين تقريباً في الأراضي المحتلة يعيشون في ثمانية وعشرين مخيماً. ولعل عشرين من هذه المخيمات تقع في الضفة الغربية وثمانية منها في غزة بينما النصف الآخر من سكان فلسطين يعيشون في مدن وقرى الضفة الغربية وقطاع غزة.
ولنا أن نتصور حال تلك المخيمات في فلسطين المحتلة حيث الكثافة السكانية العالية جداً والأزقة الضيقة والمباني الصغيرة المتلاصقة والغرف الضيقة والمكتظة بالأسر الكبيرة. قد لا يتصور الكثيرون أن أسرة مكونة من عشرة أفراد تعيش في مسكن مكون من غرفتين ودورة مياه واحدة. قد لا يتصور الكثيرون أن هذه المخيمات تفتقر لكثير من البنى التحتية وبالذات الصرف الصحي والمياه النقية والمراكز الصحية والمدارس بشكل مناسب.
ولنا أن نتصور الوضع الصحي في مثل تلك المخيمات. قد لا يتصور الكثيرون صراع الفلسطينيين المرير من أجل لقمة العيش. قد لا يتصور الكثيرون معاناة العمال الفلسطينيين وهم يعبرون الحواجز للعمل لدى الكيان الصهيوني في البناء والزراعة وكثير من الأعمال وهم يشعرون بالمرارة والأسى والحسرة للعمل وقبض أجورهم من عدوهم. قد لا يتصور البعض حال هؤلاء العمال وهم يسيرون مطأطئي الرؤوس وهم يقولون (شالوم - السلام بالعبرية) لأعدائهم رغم أنهم لا يودون قولها لكن يخشون من إيقافهم ومساءلتهم والتنكيل بهم.
إنه ونتيجة لهذا الاحتلال والذي هو مرفوض من أساسه لدى الشعب الفلسطيني وفي ظل هذه الحياة والمعيشة الصعبة وفي ظل هذه المعاناة بدأت انتفاضة ديسمبر من عام 1987م. كانت شرارة هذه الانتفاضة هي عملية هوجاء قام بها الجيش الإسرائيلي في غزة حيث مرت دبابة على صف من السيارات الفلسطينية ودهستها ونجم عن ذلك وفاة أربعة فلسطينيين. لقد كان الاحتلال والظلم والقمع محفزاً ودافعاً قوياً لبدء هذه الانتفاضة. لقد استفز الكيان الصهيوني الشعب الفلسطيني من خلال تسليح سكان المستعمرات وقيام دوريات مسلحة من المستوطنين الصهاينة ومهاجمة هذه الدوريات للشعب الفلسطيني الأعزل. ورغم أن هذه الدوريات لم تكن قانونية إلا أن الجيش الصهيوني كان يغض الطرف عن انتهاكاتها.
بدأت هذه الانتفاضة في بعض مخيمات مدن الضفة الغربية في 9 ديسمبر من عام 1987م. امتدت إلى غزة لتعم كل المدن والقرى والمخيمات الفلسطينية. ورغم أن سلاح الفلسطينيين كان يتمثل في الحجارة ووضع الحواجز والزجاجات الحارقة، إلا أنهم ووجهوا بالرصاص والذخيرة الحية.
فقد استشهد من الفلسطينيين خلال 10 أشهر من بدء الانتفاضة أكثر من 250 وأعداد كبيرة من الجرحى كما قتل من الصهاينة خمسة فقط.
ضمت الانتفاضة في معظمها صغار السن من الفلسطينيين ولكن الصهاينة لم يأبهوا لصغير ولا كبير. استخدم الصهاينة شتى الطرق والمحاولات لقمع هذه الانتفاضة بل وكل الوسائل الوحشية القاتلة والمؤذية للأجساد من الذخيرة الحية والأعيرة المطاطية والهراوات وكعوب البنادق. ولم يكتفوا بذلك بل حاول الصهاينة طرقاً أخرى لوقف الانتفاضة تمثلت في هدم المنازل وتخريب الحدائق وتدمير المحاصيل والمزارع وتخريب آبار الشرب.
استخدم الصهاينة العقاب الجماعي كطريقة أخرى لإيقاف اللانتفاضة حيث كانوا يقتحمون البيوت ويضربون الطفل والرجل والمرأة والشيخ ويقتادون الشباب للسجون الإسرائيلية. كان الصهاينة يقتحمون المستشفيات ويضربون الأطباء والممرضين والممرضات لأنهم كانوا يعالجون من أصيب من الفلسطينيين برصاص الصهاينة أثناء الانتفاضة. وكل ذلك كان يستهدف قمع هذه الانتفاضة التي لم يشهد الصهاينة مثيلاً لها من قبل.
تفتق ذهن بيريز عن سياسة أعتقد أنها ستنهي الانتفاضة وهي سياسة تكسير العظام معتقداً أنه سينهي السواعد التي ترمي الحجارة. ولكن هذه السياسة والعنف الصهيوني أبرزت القضية الفلسطينية وفضحت الكيان الصهيوني وممارساته وانتهاكاته الصارخة لأبسط قواعد حقوق الإنسان.
لم ينه هذه الانتفاضة الكيان الصهيوني بعنفه ولا بجبروته ولا بكل طرقه ووسائله. إن التوجه نحو السلام والوعود بسلام عادل والمتغيرات الدولية بعد عام 1990م ومبادئ اسلوا عام 1993م هي التي أنهت هذه الانتفاضة بعد أن استمرت أكثر من ست سنوات.
لكن قدر لهذه الانتفاضة أن تعود مع نهاية عام 2000م ولا تزال مستمرة ولكن هذه الانتفاضة كانت أعنف من سابقتها. هذه الانتفاضة أشعل فتيلها السفاك شارون بزيارته وانتهاكه لحرمة المسجد الأقصى الذي رأى فيها الفلسطينيون مؤشرا على نية خبيثة ومخطط خبيث ربما كان يدور في ذهن شارون تجاه أولى القبلتين. وربما زيارة شارون لم تكن السبب الوحيد ولكنها أشعلت فتيل الانتفاضة.
كان الشارع الفلسطيني محتقناً وخاصة بعد فشل مؤتمر كامب ديفيد عام 2000م وشعور الفلسطينيين بأن هناك محاولات إسرائيلية للالتفاف على اتفاقيات ومبادئ أسلو للسلام. زادت المستعمرات بحيث تغيرت الجغرافيا البشرية على الأرض لصالح الصهاينة منذ إعلان مبادئ أسلو. بدأ الإسرائيليون يحاولون التهرب من مناقشة قضايا أساسية كحق اللاجئين في العودة وقضية القدس وإعادة توزيع المستوطنات ناهيك عن المعاملة الوحشية والإهانة اليومية للفلسطينيين عند نقاط العبور بين الجانبين. لم يتحقق من الاتفاقيات المتلاحقة أي شيء يذكر لصالح الفلسطينيين مثل اتفاقية اسلو الثانية 1995م واتفاقية واي رفر 1998م واتفاقية واي رفر الثانية 1999م.
أدرك الفلسطينيون أن الحكومات الإسرائيلية تدعم الاحتلال في الضفة الغربية بالذات حيث تضاعف أعداد المستوطنين فيها ليصلوا قرابة 400.000 مستوطن منهم 200.000 في القدس الشرقية. وعمل شارون على توسيع المستوطنات الموجودة مدعياً أنه لم يبن مستوطنات جديدة وسمى هذا التوسع بالنمو الطبيعي للمستوطنات. ولذا لم يتردد الفلسطينيون في الاحتجاج على كل تلك الجوانب. جاء شكل هذا الاحتجاج في شكل الانتفاضة والتي في الحقيقة لم يكن مخططاً لها ولكن كانت كل الظروف تشير إلى احتمالية حدوث نوع من الاحتجاج الفلسطيني القوي. رد الكيان الصهيوني على هذه الانتفاضة التي عمت كل المدن والقرى والمخيمات الفلسطينية بقسوة وإفراط في استخدام القوة. استشهد في يوم واحد وهو يوم 29-8-2000م عند المسجد الأقصى 6 فلسطينيون وجرح أكثر من 200.
لقد استشهد منذ بدء هذه الانتفاضة وحتى الآن قرابة ثلاثة آلاف فلسطيني وقتل ما يقرب من 800 صهيوني كما ارتفع عدد الجرحى في صفوف الفلسطينيين ليصل لعشرات الآلاف. كما تصاعدت وتيرة العنف الصهيوني حيث استخدم الجيش معظم أنواع الأسلحة التي لا تستخدم في المواجهات بين الجيوش النظامية من طائرات ودبابات ومدفعية وصواريخ أرض جو وقنابل ناهيك عن المتفجرات لنسف المنازل، مثلما استخدم الجيش النظامي الصهيوني اسلحته المتطورة ضد الأطفال والنساء والشيوخ العزل، بينما استخدمت المقاومة الفلسطينية بأعدادها القليلة بنادق وأسلحة رشاشة ومدافع هاون صغيرة اعتبرها الصهاينة سلاحاً خطيراً وسعوا إلى تحريم استخدامه من قبل الفلسطينيين.
وحاول الصهاينة أن يوقعوا بين الفلسطينين سعياً لإشعال حرب أهلية وإيقاف الانتفاضة ولكنهم فشلوا فشلاً ذريعاً. ثم سعوا إلى دس المتآمرين بين الصفوف الفلسطينية ونجحوا مع الأسف الشديد في اغتيال العديد من الكوادر الفلسطينية بفعل الخونة والمدسوسين. ولكن كل ذلك لم يفت في عضد الفلسطينيين ولم يوقفوا انتفاضتهم ومقاومتهم. واشترط شارون على الفلسطينيين مهلا عديدة للعودة للمفاوضات ولم تلتزم. كما وعد الشعب الإسرائيلي بتحقيق الأمن وبقمع الانتفاضة وإنهائها في وقت وجيز ولكن أسقط في يده. ورغم أن المقاومة الفلسطينية حاولت وتجاوبت مع بعض المهل لإيقاف المقاومة والانتفاضة لأسبوع ثم مرة أخرى شهر إلا أن شارون استمرأ طلب المهل.
لم يوقف الصهاينة عدوانهم ولم يوقفوا الاغتيالات للكوادر الفلسطينية القيادية ولم يتورعوا في مهاجمة مقرات الرئاسة الفلسطينية ومقرات الأمن والمخابرات، وانتهى الأمر بمحاصرة الرئيس عرفات في رام الله.
وعندما لم يجد الحصار نفعاً مع الفلسطينيين اقتحم الجيش الصهيوني المدن الفلسطينية وهدم معظم مباني المقاطعة حيث مقر السلطة الفلسطينية. ولا يزال الحصار مستمراً.
واتسمت انتفاضة الأقصى بعدة مظاهر منها السلبية ومنها الإيجابية. من المظاهر الإيجابية لهذه الانتفاضة هو أن الشعب الفلسطيني رسخ مبدأ الإرادة وبأن إرادة الشعوب لا تقهر. المظهر الإيجابي الآخر هو الشجاعة النادرة التي أبداها الفلسطينيون واستعدادهم للتضحية من أجل الوطن والمقدسات حيث أصبحت أعداد المستعدين للاستشهاد من أجل هذا الهدف كثر. ومظهر إيجابي آخر هو الصبر والجلد لدى القادة السياسيين الفلسطينيين وعدم الانفعال. وعمل إيجابي آخر هو التلاحم الفلسطيني وإدراك ألاعيب الصهاينة في السعي إلى الوقيعة بين الفصائل والمجموعات الفلسطينية.أصبح هناك مشاركة بين فصائل عدة في تنفيذ الكمائن والعمليات الاستشهادية. ومن الإيجابيات في العمل السياسي إنشاء منصب رئيس الوزراء والتوجه نحو الديموقراطية بغض النظر عن طالب بهذا المنصب. الفلسطينيون أيضاً وهم ينتفضون ضد الاحتلال الصهيوني فقد كانت في ذات الوقت كان هناك انتفاضة ضمنية ضد الفساد المالي والإداري الذي اعتقدته شريحة من الفلسطينيين. كان المتظاهرون يطالبون بإصلاحات مالية وإجراء تحقيقات.
أما السلبيات فتتمثل أولاها في ازدياد المأجورين و المدسوسين في صفوف الفلسطينيين. الظهور في الشوارع للفدائيين وهم يحملون أسلحة وملثمين وهذا بقدر ما هو محاولة لإظهار القوة إلا أن الغرب ينظرون إلى ذلك بأنه يمثل الإرهاب. هناك فشل سياسي وإعلامي فلسطيني في كسب الرأي العام العالمي.
ومن السلبيات أيضاً التعجل وعدم إعطاء فرصة كافية من قبل بعض الفصائل الفلسطينية للسلطة الفلسطينية للمفاوضات والبحث عن السلام.
وشيء مهم سلبي لم تدركه الفصائل الفلسطينية هو أن المقاومة رغم أهميتها في التحرير إلا أن الحاجة أصبحت ملحة للقبول بالتفاوض وأن العنف لن يحل القضية في المستقبل القريب ولذا لا بد من إعادة النظر.
أعتقد أن شارون أدرك ولو متأخراً أن استخدام العنف لن يقهر إرادة الشعب الفلسطيني ولن يمنعهم من المطالبة بسلام عادل وشامل واسترداد أرضهم وإيجاد دولة لهم. فهل تدرك الفصائل الفلسطينية في ظل الأوضاع الراهنة أن الأمر يحتاج إلى إعادة نظر على الأقل في طرق المقاومة في ظل التوجه الأمريكي لحل سلمي للقضية.
لا بد أن يدرك الفلسطينيون بكل شرائحهم أن طريق السلام شائك وطويل.
الصراع العربي الإسرائيلي بدأ مع بداية القرن العشرين وبوادره بدأت من قبل ذلك. إن السلام يحتاج لنفس طويل وصبر وحكمة وروية. إن طريق السلام من خلال المحادثات ربما يكون بمشقة الكفاح المسلح ويتضمن ضغوطاً وتهديدات مبطنة وضرباً تحت الحزام لا ينكشف للكثيرين. ولكن رغم ضغوط المفاوضات، إلا أن على كافة الفصائل الفلسطينية أن تستلهم الرشد في هذه المرحلة الحرجة جداً وتعيد النظر في حساباتها وتعاملها بين بعضها ومع السلطة الفلسطينية حتى لا تشتعل الفتنة وتراق الدماء بين الشعب الفلسطيني. لا بد من تضحيات ولا بد من تنازلات في مجال السلم كما هي التضحيات في مجال المقاومة المسلحة.
سيحرص المفاوضون الفلسطينيون على تحقيق أكبر قدر ممكن من مطالب الشعب الفلسطيني وستكون الثوابت أمام أعينهم وربما يساعدهم المجتمع الدولي في حالة الرجوع للمفاوضات وتهدئة الأمر.
|