* الجزيرة - خاص:
يقول المصطفى- صلى الله عليه وسلم- : «من ضمن لي ما بين لحييه... ضمنت له الجنة»، وأكثر ما يورط الإنسان في المشاكل هو اللسان، فيه قد يصل المرء إلى نار جهنم والعذاب الشديد، ومن أسوأ ما يفعله المرء بلسانه هو أن يستخدمه في بذيء الألفاظ وسيىء الأقوال التي تجرح لآخرين، وتسيء للحياة الاجتماعية، وفي الوقت نفسه تحط من قدر قائلها.. فما الذي يصيب اللسان بالبذاءة في القول، ما هي آثار ذلك على الفرد والمجتمع ككل، وكيف عالج الإسلام هذا الداء المشين، ووضع له حلولاً وطرقاً للوقاية منه؟
جاء الإسلام ليخلص البشرية من أدران الجاهلية وأمراضها، ويقوم السلوك الإنساني ضد أي اعوجاج أو انحراف عن الفطرة السوية، ويقدم العلاج الشافي لأمراض الإنسان في كل العصور القديم منها والحديث، مما حملته العصور الحديثة بتقنياتها ومستجداتها، وهو علاج تقبله كل نفس سوية، ولا ترفضه إلا نفوس معاندة مكابرة، جاهلة، أضلها هوى، أو متعة زائلة.
وقد استوعبت الشريعة الغراء كل ما قد يقترفه الإنسان من ذنوب، أو محرمات في كل عصر، سواء كانت أقوالاً أو أفعالاً، أو حتى ما يعتمل في الصدور من مشاعر وانفعالات، وأبانت أسباب تحريمها جُملة وتفصيلاً في القرآن الكريم والسنة المطهرة، إلا ان الكثيرين مازالوا يسقطون في دائرة المحرمات هذه، إما جهلاً، أو استكباراً، أو استصغاراً لها، أو بحثاً عن منفعة دنيوية رخيصة واستجابة لشهوة لحظية، بل إن بعض هؤلاء يحاولون الالتفاف على حكم الإسلام الرافض لهذه السلوكيات، بدعاوى وأقاويل هشة لا تصمد أمام وضوح وإعجاز الإسلام في رفضه لهذه الموبقات التي تضر ليس مرتكبها فحسب، بل تهدد المجتمع بأسره.
و«الجزيرة».. تفتح ملف هذه السلوكيات المرفوضة، تذكرةً وعبرةً ووقايةً للمجتمع من أخطار هذه السلوكيات، وتحذيراً لمن يرتكبها من سوء العاقبة في الدنيا والآخرة، من خلال رؤى وآراء يقدمها أصحاب الفضيلة العلماء والقضاة والدعاة وأهل الرأي والفكر من المختصين كل في مجاله..
آملين ان تكون بداية للإقلاع عن مثل هذه السلوكيات التي حرمها الله، قبل ان تصل بصاحبها إلى الندم وسوء الخاتمة.. ولله الأمر من قبل ومن بعد.
سلمان
بداية يشير د. محمد بن عبدالله السحيم الأستاذ بجامعة الملك سعود بالرياض إلى أن من الخير أن تنشأ ناشئة الأمة على الهدي الذي جاء فيه « ما نحل والد ولده أفضل من أدب حسن»,وما أخطر من أن تنشأ على الفحش قولاً أو عملاً، فقال جل ثناؤه: ( والذين لا يشهدون الزور وإذا مروا باللغو مروا كراماً) وأخبر الهادي البشير أن اللعانين لا يكونون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة، لأن المسلم ليس بالطعان، ولا باللعان، ولا بالفاحش البذيء.
ويقول د. السحيم: إن أمة هذا هديها، وهذا دينها، تجعلنا في عجب أن ينشأ فيها ناشئة تألف الساقط من القول والفاحش من اللفظ، ولا تأنف من القبح عباراتها، أو الخبيث من كلماتها، إذ الخبيثات للخبيثين والطيبات للطيبين، ولا شك أن لبذاءة اللسان أسبابا منها: مخالطة من تدنست ألسنتهم بالسوء، فيتلقف النشء ساقط القول، وسيىء اللفظ من حيث لا يشعر، والطبع لص كما قيل، والعدوى في هذا الأمر أعظم من العدوى بالأمراض المعدية، كذلك مشاهدة الأفلام الهابطة التي عمادها الفحش في الأقوال والأفعال فيرغب الطفل في محاكاة ما يراه من حركة مشينة، أو قول زور، وفي حالة الغفلة عن متابعة النشء، يكتسب الطفل بذيء القول ويعتاده، ويردده في غفلة من والديه.
أما العلاج كما يراه د. السحيم فيبدأ من التربية الراشدة الصالحة، وإرشاد الناشئة إلى البديل من الكلمات الطيبة، وتحذيرهم من سوء مغبة الكلمات البذيئة والرقابة على الأطفال في البيت والمدرسة، وتفقدهم في ألفاظهم وأحوالهم، والتأكد من موافقتها للكتاب والسنة، وعلى جميع الأطراف ذات العلاقة بالعملية التربوية أن تعي رسالتها في ذلك، فتساهم في التوعية والإرشاد.
ويحذر د. السحيم من خطورة الغفلة عن هذ الأمر فيقول:حينما يعتاد الطفل الفاحش من القول :إنه ينشأ عليه - إذ من شب على شيء شاب عليه- وحينئذ قد يتفوه بكلمة تخرج من الملة، وهو لا يشعر، أو يستهزىء بشيء من الدين، فيخرج من الإسلام، وقد يورد الكلمة، ليضحك من حوله يهوي بها في النار سبعين خريفاً، وقد يعتدي بكلامه على أحد من الخلق، فيكون فيها عطبه، فكم كلمة قالت لصاحبها دعني، كما أن من اعتاد اللعن والسب، فإنه يحور عليه، ومن سب آباء الناس رجع السباب إلى والديه، كما جاء في الحديث، وما ربك بظلام للعبيد، فمن أفسد تربية ولده رجع نتاج ذلك عليه، ويخشى على بذيء اللسان أن يكون من شر الناس، فقد أخبر الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن شر الناس من تركه الناس اتقاء شره، كما أن من ينشأ على ذلك، ولم يتب منه، يخشى أن يحرم من الشهادة والشفاعة يوم القيامة، كما جاء في الحديث.
اللسان ميدان للخير والشر
ويتابع الشيخ خالد بن جريد العنزي عضو الدعوة والإرشاد بمكة المكرمة خيط الحديث ويقول: اللسان له في الخير ميدان رحب، وله في الشر ذيل سحب، لأنه أداة النطق، وآلة الكلام، به يعبر المرء عما في نفسه وما يضمر بفؤاده، ولهذا قيل «الألسن مظاريف القلوبِ، والإنسان حرُ قبل أن يتكلم، فإن تكلم أصبح أسير كلمته، وقيمة الإنسان عند الخالق سبحانه وعند الخلق، على ما فيه قلبه ولسانه، قال -عليه الصلاة والسلام-: «لا يؤمن أحدكم حتى يؤمن من قلبه ولسانهِ، وقال محمد بن القاسم: »المرء بأصغريه قلبه ولسانهِ.»
واللسان آلة حادة خطيرة لا تكل ولا تمل، إن لم يشغلها المرء بالطاعة أشغلته بالمعصية، ولهذا حذر -صلى الله عليه وسلم- الناس من استعمالها في معصية الله تعالى، لأن الإنسان إذا أطلق العنان للسان، فأصبح يهرف بما لا يعرف، ويهذي بما لا يدري، ربما يفلس من أعماله الصالحة، ويتجشم النار وبئس القرار، ولهذا قال -عليه الصلاة والسلام- لمعاذ بن جبل: «وهل يكب الناس على وجوههم أو مناخرهم في نار جهنم إلا حصائد ألسنتهم».
ويقول في الكلام رب كلمة يقولها الإنسان مازحاً، ضاحكاً، غافلاً عن لجام لسانه بلجام التقوى، يهوي بها في النار سبعين خريفاً، قال -عليه الصلاة والسلام-:« رب كلمة يقولها المرء من سخط الله لا يلقي لها بالاً تهوي به في النار سبعين خريفاً».
وينصح الشيخ العنزي المسلم أن يحفظ لسانه من آفات الألسن الكثيرة، والمتعددة، ومن هذه الآفات الخطيرة لتي انتشرت في بعض المجتمعات، استعمال الألفاظ البذيئة، والأقوال السيئة، التي تسبب الفرقة وتنشر البغضاء، وتثير بعضهم على بعض، فتكثر الخصومات وتتفرق الأسر، وتتقطع الأواصر بين المجتمع، فكم من كلمة أججت حرباً، وكم من كلمة فرقت شعباً، وكم من كلمة كانت سبباً في قتل مؤمن، وكم من كلمة أثارت فتنة، وكم من كلمة قالت لصاحبها دعني.
أسباب التلفظ بالقبيح
ويرجع العنزي استعمال هذه الألفاظ السيئة والكلمات البذيئة والأقوال الفاحشة لأسباب عدة، منها: البعد عن النهج النبوي القويم في الألفاظ، فإن النبي الكريم- صلى الله عليه وسلم- لم يكن فاحشاً ولا متفحشاً، ولا بذيئاً، ومجاراة الأصدقاء والزملاء الذين يتلفظون بهذه الألفاظ البذيئة، والمرء على دين خليله، وكما قيل الصاحب ساحب، وعدم استشعار نعمة الله عز وجل على هذا الإنسان باللسان، الذي يتكلم به، ويعبر عما في نفسه، هذه النعمة التي حرم منها بعض الناس، كما أن الغفلة عن أن ما يتكلم به الإنسان يحاسب عليه، وما ينطق به الإنسان يسجل عليه( كراماً كاتبين يعلمون ما تفعلون)، (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد).
أما العلاج كما يراه الشيخ العنزي فيبدأ بتعليم الناس بخلق النبي- صلى الله عليه وسلم- وبأن خلقه عليه- الصلاة والسلام- القرآن (وإنك لعلى خلق عظيم)،وتذكير الناس بأن أقرب الناس منزلة من النبي أحسنهم أخلاقاً، وأن صاحب الخلق الحسن يدرك بخلقه الحسن درجة الصائم القائم، وحثهم على العمل والتطبيق لمحاسن الأخلاق، والتأدب، واختيار أحسن الأقوال، قال أحد السلف: « ما أحببت الدنيا إلا لثلاث: لظمأ الهواجر، وقيام الليل، وإخوان ينتقون أطايب الكلام كما ينتقى أطايب التمر».
وسيلة الاتصال الأقوى
ويرى الشيخ إبراهيم بن مهنا المهنا رئيس قسم التوعية والتوجيه بإدارة الإرشاد والتوجيه بالحرس الوطني للقطاع الغربي أن جارحة اللسان التي خلقها الله في الإنسان ينبغي أن تؤدي وظيفتها في العبودية لله سبحانه وتعالى .. مشيراً إلى أن اللسان له عدد من الوظائف من أعظمها النطق، فهو أقوى وسيلة اتصال للإنسان بغيره، ونقل ما يريد إلى الآخرين، فهو من أعظم النعم التي أنعم الله عز وجل بها على الناس، ولا نستطيع أن نعرف قدر هذه النعمة إلا إذا نظرنا إلى حال المحروم منها، وهو الأبكم، فإننا ندرك عقلياً عظم هذه المنة الإلهية، التي يجب أن نحافظ عليها، ونستخدمها في الخير، ونجنبها الزور والوقيعة في الكذب والغيبة والنميمة وإلقاء الكلمات البذيئة.
وحفظ اللسان على الناس أشد من حفظ الدنانير والدراهم، وكثرة الكلام تذهب الوقار، ومن كثر كلامه كثر سقطه، لكن بعض الناس أطلقوا العنان لألسنتهم، فأصبح هذ اللسان سلاحا لبث الفرقة والنزاع، والخصام والشتائم في شتى مجالات الحياة كلها، وبين الرجال والنساء في المجالس، والدرويات والاستراحات، ولأن الكلام هو الفاكهة لهذه الجلسات كان لابد من وضع ضابط للناس في هذه الجلسات، فاللسان إما أن يكون سبباً في النجاة والفلاح في الدنيا والآخرة، أو سبباً في الخذلان والحرمان في الدنيا والآخرة، فمن أخذ بزمام لسانه إلى الخير نال الخير، ومن أخذ بزمام لسانه إلى الشر ناله الشر، ومن هذا يتبين أن اللسان نعمة إذا عرفنا كيف ننعم به، وأيضاً قد يكون نقمة، وذلك بالتلفظ بالألفاظ البذيئة.
العلم والعمل:
وحول أسباب بذاءة اللسان، يضيف الشيخ المهنا: من هذه الأسباب ضعف الإيمان بالنصوص الواردة في الكتاب والسنة التي بين الله عز وجل فيها أن العبد مدون عليه كل ما يقول، ولا أعني بضعف الإيمان عدم العلم بهذه النصوص من حيث سماعها ومعرفتها العامة، بل أعني بذلك عدم العلم والعمل بما في هذه النصوص الشرعية، قال عز وجل: (إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد) وفي هذه الآية الضابط الشرعي لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، ورقابة شديدة لا تُغفل دقيقاً ولا جليلاً، ولا قليلاً ولا كثيراً، كل نفس معدود، وكل لفظ مكتوب، وكل حركة محسوبة في كل وقت وفي كل حال.
ولا يقف الأمر عند ذلك، بل بين النبي -صلى الله عليه وسلم -خطورة اللسان، وحذر من ذلك، وأن الكلمة تكون سبباً لدخول الجنة ورضوان الله، وقد تكون سبباً لدخول لنار وسخط الله، فلا يدع مجالا بذلك لمن تأمل كلام الله عز وجل أو كلام نبيه- صلى الله عليه وسلم- لمن يطلق العنان للسانه بالحديث كيف يشاء، ومتى شاء، فعن بلال بن الحارث المزني قال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: « إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله بها رضوانه إلى يوم يلقاه، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله بها سخطه إلى يوم القيامة»أخرجه البخاري في صحيحه، وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: «إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين ما فيها يزل بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب» متفق عليه، وعن سهل بن سعد عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: من يضمن لي ما بين لحييه، وما بين رجليه أضمن له الجنة "صحيح البخاري، ثم يوجه المصطفى- صلى الله عليه وسلم- إلى أمته قاعدة شرعية، ومعيارا دقيقا لمن اختلطت عليه الأوراق، فيقول كما في حديث أبي هريرة- رضي الله عنه-: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت».
والسبب الثاني لبذاءة اللسان: الجرأة على الشرع وعلمائه، وهو من أعظم الأسباب وأخطرها على كثير من الناس، فإطلاق العنان للسان في التحليل والتحريم، والسخرية والاستهزاء بالدين وبالعلماء، مثل السخرية من اللحية، والثوب القصير... وهذا عام من الرجال والنساء والشباب، ونسوا قوله تعالى: (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذ حرام لتفتروا على الله الكذب)، وقوله تعالى: (ويل لكل همزة لمزة)، ويقول الإمام مالك - رحمه الله تعالى- : «لم يكن من أمر الناس ولا من مضى من سلفنا ولا أدركت أحداً اقتدي به كان يقول في شيء هذا حلال، وهذا حرام ما كانوا يجترئون على ذلك ،ولكن كانوا يقولون نكره هذا ونرى هذا حسنا».
والسبب الثالث هو: التهاون والتساهل في إطلاق اللسان، خاصة على علماء الشريعة ودعاتها ، ولا يبعد هذا السبب كثيراً في الخطورة عن سابقه، إذ إن العلماء هم حملة هذا الدين، فإن من أطلق لسانه في أعراضهم، واستنقصهم وتلمس الزلات منهم، وأعمل لسانه في لحومهم، فإنه قد عرض نفسه إلى خطر عظيم قال ابن عساكر- رحمه الله تعالى- : اعلم يا أخي - وفقني الله وإياك لمرضاته وجعلني وإياك ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته - أن لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هتك أستار منتقصهم معلومة، وأن من أطلق لسانه في العلماء بالثلب بلاه الله قبل موته بمرض القلب.
يضاف لهذه الأسباب أيضاً عدم تلمس الأعذار للآخرين، والفراغ، فإن عدم تقدير أهمية الوقت في حياتنا جعل كثيراً من الناس شغلوا أنفسهم بعيوب الآخرين، والغفلة عن عيوب النفس، ومن ذلك حديث العامة أن فلانا فيه أخطاء كيت وكيت، والفلان الآخر في تقصير، والثالث فيه غفلة، والرابع لا يسلم من العيب الفلاني.. وأخطر ما يكون الحديث لما يكون مطلقاً على ولاة الأمر والعلماء والدعاة، وهكذا أقاموا أنفسهم لتقييم الآخرين، وجرحهم، ولمزهم، فنسوا أنفسهم وعيوبهم، وكثرة أخطائهم، ولو نظروا في أنفسهم لوجدوا أكثر من ذلك فيها، قال ابن القيم - رحمه الله تعالى- : ومن العجب أن الإنسان يهون عليه الاحتراز من كثير من المحرمات، ويصعب عليه التحفظ من حركة لسانه، حتى ترى الرجل يشار إليه بالدين والزهد والعبادة، وهو يتكلم بالكلمات من سخط الله لا يلقي لها بالاً، يزل بالواحدة منها أبعد ما بين المشرق والمغرب.
زرع الفرقة في المجتمع
وحول الآثار السلبية المترتبة على بذاءة اللسان، يشير الشيخ المهنا إلىأن بذاءة اللسان تزرع الفرقة في المجتمع، وتبعد الأخ عن أخيه والجار عن جاره، والزميل عن زميله، ولو تخلق الناس بخلق الإسلام، وحفظوا ألسنتهم إلا من الخير، لما حدثت النفرة والفرقة، وبذيء اللسان سيجر من يفضحه، ويبين عواره، ويهتك أستاره، فالجزاء من جنس العمل، فعن أبي برزة- رضي الله عنه-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: « يا معشر من آمن بلسانه ولم يؤمن بقلبه لا تتبعوا عورات المسلمين، ولا عثراتهم فإنه من تبع عثرات المسلمين أتبع الله عثرته، ومن يتبع الله عثرته يفضحه، وإن كان في بيته »رواه أبو داود وهو صحيح بجميع طرقه.. كما أن هذا البذيء يعد من شرار الناس، فيتجنبه الناس، ويحذرونه لاتقاء فحشه، وإن ضحكوا له، وجاملوه، ومن آثار ذلك أيضاً البلاء، فيبلى المتكلم بما كان يذكره في أخيه، فعن وازرة بن الأسقع- رضي الله عنه- قال: قال- صلى الله عليه وسلم- : لا تظهر الشماتة في أخيك فيرحمه الله ويبتليك رواه الترمذي وحسنه، وقال ابن مسعود- رضي الله عنه-: «البلاء موكل بالقول ولو سخرت من كلب لخشي أن اُحول كلباً».
وعلاج بذاءة اللسان يكون بالالتزام بتعاليم ومبادىء الدين، فالإسلام بشموله، وكماله لم يدع شيئاً من أمر الدنيا والآخرة إلا وبينه أتم بيان، ومن ذلكم بذاءة اللسان، وأهم طريق لعلاج كل داء معرفة أسبابه، فإن الجهل يعالج بالعلم الذي يورث عملاً، واليقين الكامل بوعد الله ووعيده، فمن علم ولم يعمل فإن الحجة قد قامت عليه، ولا نكن كمن قال فيه الرسول- صلى الله عليه وسلم :-« يا معشر من آمن بلسانه ولم يؤمن بقلبه» فإن الإيمان بما جاء عن الله عز وجل ورسوله- صلى الله عليه وسلم- إذا خالط شغاف القلب فامتلأ القلب رغبة بما عند الله من الوعد لما تلفظ إلا بما يحبه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
ومن الوعي بهذه التعاليم إمساك عنان اللسان، فلا يطلقه صاحبه إلا بما يعود عليه بالخير، فلا ننطق إلا بما نعلم ونسكت عما نجهل، ففي ذلك خير عظيم، وسد منيع من الوقوع في عذاب الله وسخطه، فإن أحدنا قد يتكلم بالكلمة ما يدري ما تبلغ به من سخط الله، فإذا أمسكنا اللسان إلا من خير، ولم ننطق إلا الحق، كنا قد جمعنا خيري الدنيا والآخرة، كذلك احترام العلماء والدعاة وتقديرهم وإجلالهم، وإعطائهم المكانة اللائقة بهم فلا يخوض في أعراضهم، ولا تتهم نياتهم، ولا يستهزأ بهم ،فإنهم حملة الشريعة والمبلغين عن رب العالمين.
ومن النافع في علاج بذاءة اللسان تلمس الأعذار للناس في تصرفاتهم وفي أقوالهم، وهو من أعظم الطرق لعلاج بذاءة اللسان، فإنك إذا عذرت لم تغضب، وإذا لم تغضب كنت متحكماً بلسانك وعالماً ما تقول فتختار من الكلام أطيبه، وتضع كل واحد في قدره اللائق به.
يضاف لذلك الاهتمام بالوقت، وعدم صرفه إلا بما فيه نفع في الدنيا والآخرة، فإن من أعظم الأسباب التي أوقعت الناس في بذاءة الألسنة وجرح المشاعر، هو كثرة المناسبات الدورية، والاستراحات، ومنتديات الشبكة العنكبوتية، فإن هذه المجالس وهذه اللقاءات إذا لم تهيأ وتعد إعداداً يستفاد منه استفادة مناسبة فإن تركها والتخفف منها هو الأفضل للفرد والمجتمع، والحرص على تفعيل الآداب والأخلاق الإسلامية، فإن في تطبيقها وتفعيلها على أرض الواقع، بحيث تكون واقعاً ملموساً مطبقاً في حياتنا اليومية، وذلك باستيعاب تلك النصوص التي وردت في كتاب الله عز وجل وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-التي تحث العباد على التخلق بالأخلاق الحميدة، والتأدب بالآداب السامية سبب عظيم لتقويم اللسان عن فاحش الكلام، وعن بذاءة الألفاظ، والرفعة، والسمو بأدبه وخلقه، وارتقاء في حسن منطقه، فإذا استخدم المسلم مثل هذه الأساليب عمت المجتمع ألفاظ حميدة، وتقلصت منه الألفاظ البذيئة، بل إن استخدام هذا الأسلوب امتصاص لغضب، وتهدئة لنفسه، وكبح لجماحه، وغيظ للشيطان.
انتشار الآفات
من جانبها تقول الأستاذة منيرة بنت عبدالله القاسم المحاضرة بكلية التربية للبنات للأقسام الأدبية بالرياض: اللسان من نعم الله العظيمة، صغير في حجمه، عظيم في اثره، إلا أن كثيرا من الناس لا يدرك أهميته وخطورته، وكما قال الإمام الغزالي - رحمه الله-: وأعصى الأعضاء على الإنسان اللسان، فإنه لا تعب في إطلاقه ولا مؤونة في تحريكه، وقد تساهل الخلق في الاحتراز عن آفاته وغوائله، والحذر من مصائده وحبائله، وإنه أعظم آلة للشيطان في استغواء الإنسان، فاللسان قد يرفع الإنسان أعلى الدرجات، وقد يهوي به أسفل الدركات، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه- عن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالاً يرفعه الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها في جهنم رواه البخاري، وشتان بين لسان ذاكر لله، مسبح له، ناصح لمن حوله، سائل عن أحوال أهله وجيرانه، وبين لسان نمام، مغتاب، أو لعان، سباب، فعن عبدالله بن مسعود- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: «ليس المؤمن بالطعان، ولا اللعان، ولا الفاحش، ولا البذيء» رواه أحمد والترمذي، فالرسول- صلى الله عليه وسلم- هنا ينفي الإيمان عمن كانت هذه صفاته، والعياذ بالله.
وللأسف الشديد فقد انتشرت بعض هذه الآفات، ومنها بذاءة اللسان في المجتمع المسلم اليوم، وظهرت آثارها بصورة ملحوظة على الفرد والمجتمع في صورة مشاكل وسلبيات وسوء علاقات، وذلك لعدة أسباب، منها:
* - من وجهة نظري- هو ضعف الإيمان والبعد عن الله وغياب استشعار مراقبته وإحاطته.
* انعدام الحياء، الحياء من الله أولاً، ثم الحياء من الناس، والحياء من النفس، فأصبحت الكلمات تخرج سهلة لأنها لا تخضع للرقابة أو المحاسبة قبل خروجها.
* انعدام القدوة الصالحة خاصة عند الصغار والمراهقين، فكيف يتعلم الصغير حفظ اللسان واختيار الألفاظ المهذبة، وهو لا يرى من يتعلم منه ويأخذ عنه.
* سوء التربية التي تلقاها الفرد، والتنشئة التي نُشىء عليها، فشتان بين طفل نشأ بين أبوين لا يسمع منهما إلا كل خير، تهليل وذكر، تحية طيبة، وألفاظ راقية مهذبة، وآخر نشأ في بيئة عكس ذلك، سب وشتم، صراخ، وتهم، كذلك واستهزاء.. فلا توجيه ولا تعليم ولا تأديب.
* مجاملة الأقران ومسايرتهم في سلوكهم، ومن ذلك التسلط باللسان عن طريق بذيء الألفاظ، وسيىء الأقوال، كالشتم والسب وغيرها.
* التشفي من عدوه، وممن أغاظه بشيء عن طريق الإساءة إليه باللسان، بالسخرية أو الاستهزاء، أو ما يكره من القول.
* احتقار الآخرين وظن السوء بهم، مما يجعل هذا الإنسان يطلق لسانه ببذيء القول دون محاسبة أو هوادة.
* الحسد، وتزكية النفس، وحب الترؤس، مما يجعله يبيح لنفسه ما شاء من الأقوال والألفاظ، دون إحساس بحقوق الآخرين ومشاعرهم.
* الاعتياد على هذا السلوك المشين، حتى يصبح عادة عند الشخص.
* انعدام النصح والتوجيه لصاحب هذا السلوك المشين، فكيف يمكن إصلاح من هذا سلوكهم في المجتمع بدون مصلحين وموجهين ومخلصين.
جلب الخصام والنفور
وتطرقت الأستاذة منيرة القاسم إلى الآثار المترتبة على بذاءة اللسان بالنسبة للفرد والمجتمع، فتقول: هي بلا شك آثار سلبية، ومضار أكيدة على الفرد والمجتمع على حد سواء، ومن أوضح هذه الآثار ما يلي:
- قد يحصل منه ما يوجب سخط الله وغضبه، واستحقاق الوعيد في الآخرة، وعن أبي الدرداء- رضي الله عنه- ان النبي- صلى الله عليه وسلم قال: ما شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن، وإن الله ليبغض الفاحش البذيء رواه الترمذي.
- دليل ضعف الإيمان وقلة الدين، وآية على جهالة صاحبه لأن من علم قدر الله لم يحتقر عباده، ولم يؤذهم بلسانه.
- البعد عن الله أولاً، ومن الناس ثانياً، فالشخص بالفاظه البذيئة يستجلب سخط الناس ومقتهم، واحتقارهم له، فيكرهون مخالطته ومصاحبته بسبب لسانه وبذيء قوله، مما يسبب قلة الأصحاب، وبُعد الأهل والأحباب، لأنه بذلك أفسد المودة، وقطع أواصر القربى.
- الكلمات البذيئة فيها أذية للمسلمين، قد تجلب الخصام والنفور، وتسبب العداوة والبغضاء بينهم، وبإشاعتها وانتشارها تشيع في الأمة الكراهية فيتسلط بعضهم على بعض.
- البذاءة في القول والتمادي فيه، مظهر من مظاهر سوء الأخلاق وانحطاط النفس وخبثها، ودناءتها، وهو دليل الكبر والعجب بالنفس، وهذا يؤدي بصاحبها إلى الهوان على الناس، وعدم تقديرهم واحترامهم له، فيعيش منبوذاً منعزلاً مكروهاً من الناس.
- إن إشاعة هذا الخلق المشين الذي فيه جرح لمشاعر الآخرين، وتعد على أعراضهم، هو معول هدم في المجتمع إذا كثر المؤذون بلسانهم، وسكت الناس عنهم، فلا شك أن في ذلك فسادا لهذا المجتمع في دينهم وعاقبة أمرهم.
العلاج الأمثل
وتؤكد الأستاذة القاسم أن التربية الإسلامية هي أفضل علاج لهذه الآفة، فالإسلام حارب آفات اللسان كلها، كبيرها وصغيرها، ورسم منهج حياتنا في ضوء هذه العقيدة السمحة، الواضحة المعالم، وكانت النتيجة الفرد الصالح والمجتمع المتماسك، والأسرة السعيدة، والأخوة الصادقة، ولعل أوضح ما بينه لنا منهج التربية الإسلامية في ذلك غرس الإيمان في النفوس، وتثبيت العقيدة، وغرس محبة الله ورسوله وكل ما جاء به الشرع الحنيف، واستشعار رقابة الله سبحانه وتعالى ومحاسبة النفس وتعويدها على ذلك، حتى ولو كان الأمر يتعلق بالكلمات والألفاظ التي يتعلق بها الإنسان، يضاف لذلك العلم والعمل، فالعلم يكون بمعرفة سوء هذا الخلق، وجزاء صاحبه عند الله، وذلك بالاطلاع والرجوع إلى ما كتب، وما قيل عن التحذير من هذا الخلق وأضراره، ثم العمل بترك هذا السلوك وتجنبه، ومن ذلك أيضاً وجود القدوة الصالحة في حياة الفرد، خاصة في مرحلة الطفولة والمراهقة، فهي مرحلة التلقي والتأثر والمحاكاة، والقدوة تتمثل في الوالدين وافراد الأسرة، والمعلمين، كذلك عرض القدوات الصالحة للصغار، ومن أبرزها سيرة النبي- صلى الله عليه وسلم، والتعرف على خلقه وأسلوب معاملته للآخرين.. ليجعلها نموذجاً يحتذى به، وألا يكتفي الوالدان بسلوكهما وخلقهما وكونهما قدوة للأولاد، بل لابد من تعليم الصغار وتدريبهم وتعويدهم على محاسن الأخلاق، فيتعلم الولد من والديه كيفية السؤال، وكيفية الرد، ويتعلم ماذا يقول إذا سلم عليه أحد أو أحسن إليه، وكيف يتصرف إذا أساء إليه أحد، وكيف يتخير أحسن العبارات وألطفها، وأرقها، ويشجعانه ويوجهانه ويحفزانه على قول المعروف، فلا تخرج منه الكلمة إلا وقد وزنها فتخرج كأجمل ما تكون.
ومما حرص الإسلام على بيانه أيضاً - والكلام مازال للأستاذة منيرة القاسم- التواجد في البيئة الصالحة (الرفقة والصحبة) وهذا يطبق على الكبار والصغار على حد سواء، وإن كان للصغار أدعى لأن الإنسان يتأثر برفقته، وقد يجاريهم في سلوكهم، ومتى كانت الرفقة صالحة حسنة الأخلاق، سايرهم في ذلك، وأخذ منهم وحذا حذوهم، والعكس صحيح، وتجد مجاهدة النفس، ومحاولة إصلاحها من الأشياء التي يحض عليها الإسلام إذا رأى الشخص في نفس ميلاً لهذا السلوك أو فعل هذا الأمر، واحتساب الأجر في هذه المجاهدة، والتلذذ بدفع النفس عنها، والإحسان للآخرين.
كما أن من واجب المجتمع، والأصدقاء نحو من هذا خلقه، النصح له وتقبيح فعله، وبيان أضرار هذا السلوك القبيح عليه أولاً، وعلى مجتمعه، وإشعار صاحب هذا الخلق الذميم، بمضرة سلوكه هذا على من حوله وتأذيهم منه، وأن يعلم أن تأذي غيره بهذه الألفاظ كتأذيه بها، فكيف يرضى لغيره ما يتأذى به.
|