فقد قال الله تعالى (وكذلك جعلناكم أمة وسطا)، فسبيل المؤمن وسط بين طرفين، ومن تأمل الانحراف عن تلك الوسطية إلى طرف الإفراط أو طرف التفريط ألفى من أسباب ذلك الفهم الناقص للنصوص الشرعية ونعني بالنصوص هنا نصوص القرآن ونصوص السنَّة التي يؤمن المتكلم بالاستدلال بها.
ولنا أن نستقرىء التاريخ لنقف على نماذج للخطوط التي أخذت يمنّة أو يسرة عن الخط المستقيم الأوسط، وكان سبب ذلك هو ما ألمحت إليه.
وفي صحيح مسلم إشارة إلى أوائل تلك النماذج وهي قضية القدر، إذ نشأت فرقة تنفي خلق أفعال العباد وتجعل مشيئة العبد منفكة عن تقدير الله تعالى، وكان لهذا الفكر شبهته المستندة إلى بعض النصوص.. ولكن لم يكن أخذهم بالنصوص على الوجه الصحيح، بل اعتراه النقص حيث أخذوا ببعضها تاركين نصوصاً أخرى.. لذا نشأ الفكر المعاكس تماماً وهو القول بالجبر ولكنه انحراف أيضاً لوقوعه في ذات الخطأ، حيث أخذ بالطائفة الأخرى من النصوص معرضاً عن النصوص التي استند إليها أولئك.
وفي التاريخ نماذج أخرى لعقائد وأفكار كانت على طرفين متقابلين كان من أسبابها المسلك المشار إليه، (كالمرجئة ويقابلهم الخوارج، والمشبهة في الصفات ويقابلهم المنكرون لها والمؤولون).
وإن المنهج السوي الذي به تتحقق الوسطية ويتقي به المسلم الإفرط أو التفريط يحتاج منّا إلى بيان بعض القواعد في الأخذ بالنصوص فمنها:
1- قوله تعالى: (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات، فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند الله ربنا).
في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية ثم قال:(إذا ريتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم)، قال المفسرون: المحكم هو الواضح في معناه والمتشابه بضد ذلك.
فالأخذ بالمحكم الواضح هو سبيل الراسخين في العلم وما من يتبع المتشابه ويتشبث بالمحتملات من النصوص فقد أخذ بمنهج أهل الزيغ وثمرته سلوك أحد الطرفين.
2- قوله تعالى: (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض).
ففي هذه الآية الإنكار على من يأخذ ببعض النصوص معرضاً عن النصوص الأخرى، وإنما منهج أهل السنّة والجماعة الأخذ بجميع النصوص ما أمكن والجمع بينها على أكمل الوجوه وأقربها إلى إعمالها دون إهمال شيء منها.
3- قوله تعالى: ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً).
ففي هذه الآية الأمر بكمال التسليم لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وقد اقترن هذا الأمر بجملة من المؤكدات منها القسم ونفي الإيمان عند انتفائه والأمر بتحكيم الشرع وألا يكون في النفس حرج من أوامره وختام ذلك بالتسليم المؤكد بالمصدر.. والآيات في هذا المعنى كثيرة وهي تربي المسلم على التسليم للوحي دون تقديم عليه ما سواه من فلسفة عقلية أو تعصب لشخص أو طائفة.
4- حديث معاوية رضي الله عنه في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين) والفقه في الدين هو الفهم الشامل للدين من خلال نصوصه وقواعده ومقاصده، ولذا كان من أصول الوسطية العناية بفهم النصوص فهماً شمولياً عميقاً يعتبر المعاني والمقاصد والقواعد الشرعية العامة. وأما الفهم الظاهري والجانبي للنصوص ونحو ذلك من الفهوم والإسقاطات فهو فهم ناقص في نظر الفقهاء.
5- في الصحيحين عن عمران بن الحصين رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم).
وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها إن النبي صلى الله عليه وسلم سأله رجل: أي الناس خير قال: (القرن الذي أنا فيه ثم الثاني ثم الثالث).
وفي حديث العرباض بن سارية عن أبي داود والترمذي: (... فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين).
وفي حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما عن الترمذي في بيان الفرقة الناجية من الثلاث والسبعين: قال: (ما أنا عليه اليوم أنا وأصحابي).. فمن هذه النصوص وغيرها نستل قاعدة من قواعد الوسطية وهي العناية بما عليه سلف الأمة.
إن فهم النصوص ينبغي أن يستضىء بفهم خير الأمة وأزكاها وأقربها إلى الوحي حساً وفهماً ومعنى.
فأما من استقل برأيه واعتد بفهمه للنصوص دون أن يجعل للسلف في ذلك أدنى اعتبار فإنه يوشك أن يخذل عن الفهم الصحيح وليس ذلك تقديساً للأشخاص ولكن من شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالخيرية ولا سيما الصحابة رضي الله عنهم، الذي تنزل الوحي بين ظهرانيهم أولى أن يسترشد بتفسيرهم للنصوص وفقههم لها بله ما أجمعوا عليه أو ذهب إليه عامتهم أو نقل عن آحادهم مع عدم مخالفة سائرهم.
إلماحة:
إن حمل النصوص على تفسير وتأويل ناقص لكونه نظر إلى جانب دون غيره يؤدي كما أشرت في الأمثلة التاريخية إلى تفسير وتأويل معاكس له في الاتجاه.
ولذا فليس من الحكمة أن يقابل التفسير الذي قد أخذ جانباً واحداً بنفيه وإقصائه وحصر المعنى في الجانب الآخر، بل الصواب هو التنزيل الصحيح للنصوص بالمعنى الشامل على وفق القواعد السابقة.
وقد قال تعالى: (ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى).. فالعدل هو العلاج الأمثل للميل وليس علاج الميل ميلاً يقابله.
( * ) كلية الشريعة وأصول الدين بالقصيم
|