كانت (السياحة الوطنية) حتى عهد قريب شأناً خاصاً تلوكه الألسنُ همساً وجهراً بين الجدران، أو تقرأُ عنه نتفاً من القول على قارعة الصحف، يختلف حوله مَنْ يختلف، ويتفق فيه من يتفق.
**
* ثم تدخلت الدولة في الأمر قبل بضع سنوات، فأعادتْ ترتيبَ أوراقَ هذا الموضوع وتنظيمه من منظورٍ وطني وحضاري سليم، وأنشأتْ لهذا الغرض الهيئةَ العليا للسياحة، برئاسة صاحب السمو الملكي النائب الثاني - حفظه الله - وعضوية عدد من الوزراء ورجال الأعمال المعنيين بالموضوع، وعينت رائدَ الفضاء العربيَّ الأولَ، سمو الأمير سلطان بن سلمان أميناً عاماً لها، ليشعلَ في أرجائها جذوةَ حماسه!
**
* وبهذا تحقق للسياحة الوطنية أمران لم يكن أي منهما ليطرأَ على بال:
(1) فقد خلعتِ الدولةُ هيبتها واهتمامها على موضوع السياحة، لتصبحَ هماً عاماً، بعد أن كانت شأناً خاصاً.
(2) وغدت السياحةُ الوطنية قضيةً لعامة الناس وخاصتهم، يسمعون عنها ويقرأون ويتحاورون ويتجادلون.. يوماً بعد يوم.
وهكذا كان لابد للأمر أن يكون!
**
* لقد غدتِ السياحة بحقّ (صناعةَ) كل الفصول، فللشتاء سياحتُه.. وروادُه، لمن يعشق الجبل والبحر والصحراء سواء، وللصيفِ مثل ذلك، وللربيع والخريف، نصيب وافر من هذا وذاك.
**
* إذن.. فحين نسهرُ ونشقى لإنشاء بنية سياحيةٍ ثابتةٍ، كما باتت الآن تجسدها الهيئة العليا للسياحة، فإننا يجب أنْ نستلهمَ تعدديةَ طموح السائح وتنوعَ أغراضه وخصوصيةَ اتجاهاته، فهناك من يفضل سياحته شتاءً، بحثاً عن الدفء.. وهناك من يفضلها صيفاً، هرباً من سعير القيظ، وهناك من يفضّلها ربيعاً.. ابتهاجاً بروضهِ واعتدال مناخه، وحتى الخريف.. رغم ما يرمز إليه من أُفول، له من السياحة لدى البعض نصيب!
**
* وهناك أمرٌ آخر مثير للجدل أحسبُ أنه يندرج ضمن (أجندة) السياحة الداخلية في بلادنا، وهو أن البعض يرى فيها (بديلاً) للسياحة في الخارج.. والبعض الآخر يرى فيها خياراً) لمن شاءها، والفرق بين (البديل) و(الخيار) بينٌ لا يحتاج إلى بيان!
**
* لكنني أرى أن السياحة الداخلية لم ولنْ تكونَ (بديلاً) يغني كلَّ الناس، كلَّ الأوقات، عن السياحة في الخارج، لسببين:
أولهما:
أنه مهما قويت بنيةُ السياحة المحلية وتعددتْ: مواقعَ وتجهيزات وعناصرَ جذب، فإن ذلك لن يثني عزمَ منْ يرجِّح السياحة الخارجيةَ لحيثياتٍ وخصوصياتٍ تتعلق بالسائح نفسه دون سواه، وهذه أمور يتعذر إخضاعها لمعيار المواطنة أو الولاء للثقافة المحلية.
**
وثانيهما:
أنه يتعذّر (إرغام) الناس على السياحة الداخلية (بديلاً) للسفر إلى الخارج لأسباب لا تغيبُ عن إدراك كل ذي لبٍّ حليم، هناك مثلاً أناس منا يهجرون قصوراً مشيدةً في مدننا الكبرى ليحشروا أنفسَهم ومنْ معهم في غُرفِ أو أجنحة فنادق أو في شقق في أحياء باريس أو لندن وسواهما، هذا خيارهم الذي ارتضوه لأنفسهم، ولا نملك سوى أن ندعوَ لهم بالاستقامة والسلامة والتوفيق.
**
* أختمُ بالقول إن السياحةَ خارجَ الحدود ليستْ شأننا وحدَنا دون العالمين، فحتى سكان لندن وباريس وغيرهما من المدائن التي نشدُّ إليها الرحال يهجرون مدنهم إلى خارجها هرباً من رتابة الحياة وعنائها، غير أننا نطمع دائماً أن يكون سائحنا في الخارج (سفيراً) مميزاً لبلاده سلوكاً وخلقاً، وهذه أمور يحكمها مركبُ الفضيلة والطبع السويّ في وجدان كل من سلك ذلك السبيل!
|