تحت غطاء كثيف من السرية، وقبل يومين من الموعد العشوائي الذي حُدد بيوم الثلاثين من الشهر السادس للعام 2004م لتسليم العراق لسلطة محلية حيث كان ذلك الموعد قد ضُرب في نوفمبر الماضي على إثر اقتراب حملة بوش الانتخابية للرئاسة ليس إلا.. قام ممثل الاحتلال الأمريكي في العراق بريمير بمناولة إياد علاوي سيادة مفرغة ومهزوزة لبلاد تشتعل بشتى أنواع الحرائق السياسية والأمنية التي شبت فجر الحرب الأمريكية على العراق يوم الخميس 20-3-2003م، ولا يعلم إلا الله متى عساها تنطفئ.
هذا المعنى الذي كتبته جريدة (النيويورك تايمز) في عددها ليوم أمس بعد ان أضافت عليه ما يصب الزيت على الجرح بقولها إن مثل هذا الانسحاب المريب لا يحتاج إلى تعليق أو تذكير بأنه يعبّر عن نتيجة على غير ما تصور الأمريكيون عندما أرسلوا قواتهم إلى العراق تحت شعار تحرير العراق.
وإذا كنا لا ندري بالضبط ما النتيجة التي كان يتوقعها الأمريكيون من جراء إرسال قواتهم إلى العراق.. هذا إذا كان هناك تطابق أو حتى تقارب بين ما رمت إليه الإدارة الأمريكية من وراء احتلال العراق وبين خطابها الذي باعت به على الشعب الأمريكي مبررات مخاطرة الحرب خاصة بعد الوصمة التاريخية التي ألحقتها فضيحة سجن أبو غريب بالجبين الأمريكي.. فإن متابعة ما كُتب في سياق خبر الانسحاب يكشف تلك الفجوة بين رومانسية خطاب التحرير ووحشية فعل الاحتلال التي يصعب سترها بعملية الانسحاب من العراق.
وفي هذا الصدد تنداح الأسئلة لماذا تنسحب أمريكا في هذا التوقيت؟ هل يتزامن هذا التوقيت مع غير عجز أمريكا في السيطرة على الوضع، وفي عدم قدرتها على الوفاء للعراقيين بالوعود التي قطعتها على نفسها في حملاتها التحضيرية للحرب حين كان بوش يقول للشعب العراقي سنوفر لكم الخبز والحرية والأمان فيما كان يسميه بحرب الحرية والأمل، فتحاول ان تجد بهذا الانسحاب مخرجاً لمأزقها؟ هل فعلاً أبدت أمريكا بعد مضي عام من احتلالها للعراق أي توجه يدعم الشعب العراقي في ان يكون له أي خيار ديموقراطي خارج عباءة ما تُمليه مصلحة الاحتلال؟ هل هذا الانسحاب مؤشر بأي شكل من الأشكال على تحوّل استراتيجي في الموقف الأمريكي من العراق، وبالتالي من المنطقة؟ هل يمكن أن يُقرأ على أنه تعديل في الأهداف؟هل حقاً تريد إدارة بوش أن تكون للعراق سلطة مستقلة خارج الفلك الأمريكي؟ وهل مرشحوها للحكم المحلي ممثلون للشعب العراقي وقادرون على القيام بالمهمة؟ هل هذا الحكم سيكون حكماً انتقالياً يعد البلاد لانتخابات ديموقراطية حرة نزيهة في ظل دستور يشارك في صياغته الشعب نفسه وممثلو قواه السياسية على اختلاف مشاربهم فيرضي الجميع ويساوي بين الجميع دون تشظي الشعب العراقي في الانقسامات الداخلية بأنواعها؟ أم سيكون هذا الحكم شاء أم أبى الممثل المحلي للاحتلال الأمريكي؟ في حين لن تعتبر الانتخابات - هذا إن جرت - انتخابات ديموقراطية فيما لو جاءت بمن يمثِّل توجهاً إسلامياً سنياً أو شيعياً أو الاثنين معاً أو سواهما مما قد لا يطابق المواصفات الأمريكية وإن كان ذلك بتصويت الأغلبية.. هذا لو وصلت أصواتها لصناديق الاقتراع.
وهذه الأسئلة ليس الشعب العراقي أو أحد من الشعب العربي من يملك الجرأة ليسألها مع الأسف، بل إنها الأسئلة التي طرحتها الصحافة الأمريكية في الثماني والأربعين الساعة الماضية عقب الانسحاب وسواء كان الحكم المحلي الذي تسلَّم السلطة البارحة قادراً، أو غير قادر على إدارة دفة الحالة الكارثية من الفقر والانفلات الأمني، وتهدم البنى التحتية الذي ترزح تحته البلاد فإن عليه ان يتحمل تبعات قبوله الحمولة الثقيلة، وإن كان ذلك قد لا يكون ممكناً كما يكاد يجمع على ذلك عدد غير قليل من التحليلات السياسية دون تدخل عدد من العواصم الخارجية، التي لن تكون الحكومة الانتقالية بمنأى عن تأثيراتها أو حتى ضغوطها، مثل إمرة الجنرالات الأمريكيين لما يزيد على مائة وأربعين ألفاً من جنود أمريكا الموجودين على أرض العراق إلى أجل غير مسمى، ومثل عمليات الشد والجذب بين أصحاب امتياز العقود التي تُقدَّر بملايين الدولارات المفترض ان تقوم بإعادة إعمار العراق.. هذا دون ان يذكر إلا أقل القليل من تلك التحليلات الدور الذي يمكن ان تلعبه الحالة العربية في وضعها الذاتي وأزماتها الداخلية، وفي علاقتها بمجريات الحدث السياسي بالمنطقة وبالعراق تحديداً في تقوية أو إضعاف العراق في تحدياته الحالية والمقبلة، وإذا كان المتابع لا بد ان يلاحظ ان تعجيل أمريكا بسحب حاكمها من العراق، ولو بفارق يومين قد سبقه خطوات قد يقرأها البعض كمؤشر على تحوّل أمريكي بتخفيف قبضة الاحتلال عن ربقة الشعب العراقي، ومن ذلك أنها لجأت بعد فشلها الذريع في مواجهة قوى الشعب العراقي لمقاومة الاحتلال في الفلوجة إلى عسكر سابقين في جيش النظام السابق ليساعدوها في محاولاتها المستميتة لما تسميه بالضبط الأمني، ومن ذلك أيضا انها لم تتورع عن العودة لاستخدام مظلة الأمم المتحدة بعد ان كانت قد ضربت بقراراتها عرض الحائط بتسخير الأخضر الإبراهيمي ممثل الأمين العام للأمم المتحدة أخيراً للتدخل في المساعدة لوضع الترتيبات التي أدت إلى تشكيل فريق عمل الحكومة المحلية الانتقالية فان هناك من المحللين السياسيين والعسكريين من يراهن على ان تلك لا تزيد على ان تكون مؤشرات ليس لتوجه أمريكي لاتخاذ خطوات أولية لإنهاء الاحتلال، ولكنه مجرد مرحلة جديدة في الاحتلال نفسه.. حيث تأمل الإدارة الأمريكية من خلاله إلى ان تخفف ضغط المقاومة عن نفسها وتحوّل السجال إن لم يكن الصراع بين العراقيين بعضهم البعض بدل ان يكون بينها وبينهم مما قد يعيد الكرة في ملعبها بان تكون مرة أخرى الخصم والحكم هذا إذا لم تصبح مصدراً للاستقواء من طرف على آخر، ولكن كل هذه تبقى مجرد تكهنات فالليالي كما يُقال لا تزال حبلى بالأحداث والمفاجآت.
فبينما هناك من يرى ان واشنطن ربما تأمل من الانسحاب امتلاك القدرة على الحركة من خلف الكواليس (بما يخفف العداء لها في الشارع العراقي وفي الشارع العربي، بل وفي الشارع الأوروبي الذي اعتبرها الخطر رقم 2 على السلام العالمي بعد إسرائيل التي احتلت الرقم واحد في محاربة السلام على الأرض)، وذلك بإيكال المهام المكشوفة من محاربة المقاومة العراقية على الأقل في المدن الرئيسة للجيش العراقي الذي فجأة لاحظت فداحة خطأ حله بعد دخولها بغداد فان الناتو على سبيل المثال لم يبد متحمساً في إعطاء كلمة بالمساعدة في تدريب قوى الجيش والأمن في العراق.. أما تأويل ذلك بحسب المفسرين لهذا الموقف فهو سجل انحياز قوى الجيش والأمن للمقاومة في التقاء خيارهم على رفض استمرار الاحتلال.على ان تلك نصف الأسئلة المتعلقة بالانسحاب.. أما نصفها المكمل فهو المتعلق بموقف الحكومة الانتقالية والموقف العراقي منها أولاً، والموقف العربي ثانياً.. وإذا كان من العراقيين من لم يخف عدم الارتياح من تلك اللهجة التي تذكر في تكبرها على معاناة العراقيين وعدم اقترابها من حاجاتهم الأساسية للقمة الحلال والكرامة والأمن والماء والكهرباء والعلاج والاستقرار بنبرة ولهجة لا تزال مراراتها عالقة في الحلوق والأذهان فان من الأمريكيين من لوحوا بدوافع تتراوح بين الإشفاق والشماتة لما نسب للدكتور علاوي من قوله باحتمال فرض قانون الطوارئ في الحكم وتأخير جدول الانتخابات كمؤشر لعدم قدرة المنطقة على استيعاب خطورة وسرعة المتغيرات.
وأخيراً إذا كان الانسحاب الحالي لا يضاهي حلم التحرر فهل من المستحيل تجاوزه إلى خلع الاحتلال؟ هذا ولله الأمر من قبل ومن بعد.
|