تطالعنا الصحف المحلية بين الحين والآخر باستطلاعات وتحقيقات تركِّز على عرض مشكلة بحد ذاتها ومن ثم يتم معالجتها بتفاعل كريم من أصحاب الأيادي البيضاء ومن جميع فئات المجتمع السعودي النبيل، ولعل ما يؤرقني في تلك المعالجات أنها تكون وقتية ولعينات تمثِّل واقعاً حقيقياً مستتراً بمعنى هناك ما يمنع من ظهورها بالصورة التي ظهرت بها مثيلاتها ولن أتطرق للمسببات ولكنني سأتطرق للمشكلة وهي من أهم المشكلات التي تصل إلى حد الظاهرة في وقتنا الحالي ولا أبالغ إن قلت إنها ظاهرة (المرضى النفسانيين) وعدم وجود جهة معينة تلتزم بعلاجهم، وأرجو ألا يستعجل القارئ الكريم فأنا أتحدث من واقع مر وملموس وملزم بإثباته حين الطلب من الجهة المختصة، ومن واقع خبرتي، فوزارة الصحة ليست الجهة المسؤولة، خاصة أن وزارة الشؤون الاجتماعية تنفي التزامها على لسان كبار مسؤوليها، وكذلك الجهات الأمنية ليست مسؤولة عما يحدث من أولئك المرضى من عنف أو مخالفات أو أكثر من ذلك والذي قد يصل إلى حد الإجرام، وعند المحاسبة يعفي القضاء والشرع أولئك المرضى من العقوبة والجزاء، فمن المسؤول؟
سؤال يطرح على كافة المستويات وبعيداً عن المسؤولية تكون الإجابة بأن وزارة الشؤون الاجتماعية هي الجهة الوحيدة المعنية بهذا الأمر وليست وزارة الصحة التي ينتهي دورها بصرف العلاج بعد التشخيص وتخفيف الأعراض.
إن المرض النفسي في واقعه أشد من المرض العضوي وهناك من الأمراض النفسية ما هو أشد ضراوة من السرطان - وقانا الله وشفى الأمة من كافة الأمراض -، بل إن هناك من الأمراض النفسية ما يشابه السكري والربو باستمرارية العلاج مدى الحياة، وعلى رأس تلك الأمراض النفسية وسرطانها مرض (الفصام العقلي)، وإضافة إلى شدة وضراوة هذا المرض ارتفاع أسعار علاجه الباهظة الثمن رغم استمرارية العلاج مدى الحياة ودون جدوى، اللَّهم في تخفيف الأعراض، ويكلف علاج واحد من الأنواع التقليدية مثلاً (الزبركسا) بمعدل 25 مليجراماً لمدة شهر ثلاثة آلاف ريال خلاف الأدوية الأخرى المساندة مع العلم بعدم صرف هذا العلاج من المستشفيات الحكومية، وكذلك قيمة إبرة (الريببنادول) سبعمائة وخمسون ريالاً، وهي لا توجد إلا في جهة واحدة فقط في مدينة الرياض وعلى مستوى الشرق الأوسط ويحتاج المريض لأخذها باستمرار كل أسبوعين وزيارة للطبيب وفتح ملف وتبعات التنقل والسفر ومعاناة الأهل والتفرغ الكلي للمريض وظروف الحياة والعمل.
وليست المشكلة في التكلفة المادية الباهظة ولا في المعاناة الأسرية لذوي المريض وإنما في خطورة ذلك المرض على نفسه وعلى من حوله بدءاً من مجتمعه الصغير وحتى مجتمعه الكبير (الوطن)، إذاً لا بد من إضافة تكلفة الأمن والتي لا تقدَّر بثمن في حالة ارتكاب الجرائم من الاعتداء والسرقة وحتى القتل وهذا بدون تهويل والذي ينبغي أن يكون بدون تهوين فهو واقع ملموس بالرجوع إلى الإحصائيات والوقوعات وعلى أقل تقدير ما ينشر في الصحف اليومية لمدة عام كامل داخل المملكة مما يشيب له الرأس.
وخير شاهد عدم كفاءة المستشفيات النفسية، وليتخيل القارئ أن المجرم السوي يجد السجن ملاذاً لاحتوائه، بل المتعاطي المدمن يجد ما يحتويه حتى زوال أعراض الكف والانقطاع وهو مريض ولكن باختياره أو برغبته واستسلامه وحتى المريض العضوي يجد المأوى والعلاج وفي أي مكان وبالمجان مقارنة بالخدمة الفندقية المقدمة ومعرفة مسببات المرض وعلاجه وفترة الشفاء المتوقَّعة، بل مرضى النقاهة المعزولون أفضل حالاً من المريض النفسي، فلك الله أيها المرض النفسي.
وللمعلومية فإن نسبة الإصابة بمرض الفصام عالمياً حوالي 1.3% ويضرب مثلاً الدكتور إبراهيم بن حسن الخضير استشاري ورئيس قسم الطب النفسي ببرنامج مستشفى القوات المسلحة بالرياض والخرج بقوله: (إذا كان عدد سكان المملكة العربية السعودية ستة عشر مليون نسمة فإن نسبة المرضى المصابين بالفصام يزيد على 200 ألف شخص، وهو عدد كبير ويكلف مبالغ كثيرة يؤثِّر على الناحية الاجتماعية بصورة كبيرة. ا.هـ)، ويعلِّق الدكتور عبد الله السبيعي رئيس المجلس السعودي للطب النفسي وهو استشاري وأستاذ الطب النفسي المشارك بكلية الطب بقوله: (هناك نسبة قليلة من المرضى حوالي 10- 20% لا يستفيدون من أي من الأدوية المضادة للفصام ولا من غيرها من وسائل العلاج الأخرى، وبالتالي فقد يضطر إلى حجرهم وإبقائهم في مصحات نفسية سنوات طويلة إن لم يكن مدى الحياة حسب خطورة اعتقادات المريض وسلوكه كذلك فإن نسبة كبيرة من المرضى يحتاجون للانتظام على الدواء مثلما يحتاج ذلك مريض ضغط الدم أو داء السكري وخلافه، فلو حاول المريض إيقاف الدواء فسرعان ما تعاوده الحالة المرضية خلال أسابيع قليلة ا.هـ) علماً بأن المصابين بالفصام يشكِّلون أكثر نزلاء المستشفيات النفسية.
واقع مر ولست متشائماً، فلنبحث عن الحلول الممكنة مع الإخلاص في العمل، وإنني أنادي بإنشاء جمعية حقيقية لمرضى الفصام، وأدعو لتفعيل هذه الجمعية بفتح فروع لها في جميع مناطق المملكة وأن يكون المركز الرئيس بمدينة الرياض، وإنشاء منتجع يكون مأوى لهؤلاء المرضى وأن يدعم من وزارة الصحة بتوفير الأطباء المقيمين والزائرين، وكذلك الممرضون وتوفير العلاج واللوازم الطبية الأخرى، مع الدعم المباشر من وزارة الشؤون الاجتماعية لتوفير الحاجيات والضروريات والمساهمة في رواتب العاملين، وفتح باب التبرعات من أهل الخير ومن ذوي المرضى القادرين ولنحلم في بلادنا فمجتمعنا السعودي مجتمع عطف وإحسان إنه مجتمع الإنسانية.
ولأذكر القارئ الكريم باليوم العالمي للصحة عام 2001م عندما وفق القائمون عليه باختيار عنوان لذلك العام (بالصحة النفسية تكتمل العافية فارعوا إخوانكم ولا تزدروهم) في مقدمة التوعية للنهوض بالصحة النفسية ومعرفة أن الأعباء المالية والمشاكل النفسية والاجتماعية المترتبة على الاضطرابات النفسية والعقلية باهظة جداً وليس هناك من أحد يملك حصانة ضد هذه الاضطرابات سواء من الدول أو الأفراد، إذ يوجد في العالم حوالي 400 مليون شخص يعانون من اضطرابات نفسية أو عصبية أو مشاكل اجتماعية نفسية.
وأنا حالياً لا أملك نسبة أو عدد المرضى في بلادنا فهل يتحقق في بلاد الحرمين الشريفين حلم المجتمع الفاضل وأن نساعد هؤلاء المرضى وأدعو الجميع لمباركة المشروع الحلم (جمعية مرضى الفصام)، وفي حالة التأييد ستتلاقح الأفكار وتتوحَّد الجهود شريطة تفاعل وزير الشؤون الاجتماعية ونظيره وزير الصحة وهما محل المسؤولية وخير الرجال في أماكنهم المناسبة ولهما من المواقف الإنسانية ما يشهد لهما ويكفي أنهما أقرب وزيرين لمجتمعهما الذي يعتز بهما،فأكثر الله من أمثالهما وبارك جهودهما لتأدية الأمانة الملقاة على عاتقيهما في ظل حكومة مولاي خادم الحرمين الشريفين وسمو سيدي ولي العهد وسمو سيدي النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء حفظهم الله جميعاً ومتعهم بالصحة والعافية وشفى الله مرضانا، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والله من وراء القصد وهو الهادي إلى سواء السبيل.
|