كنت قد قرأت قبل عقد من الزمان دراسة علمية لقياس النشاط الذهني لمشاهد - مشاهدة التلفزيون، وقد توصَّلت تلك الدراسة من خلال عدة تجارب تطبيقية على مختلف الأعمار من عدة أجيال إلى أن مستوى عمل الدماغ أثناء عملية المتابعة التلفزيونية يساوي معدل عمله أثناء النوم.. وقد كان هذا كافياً لأتخذ قراراً صارماً بالأصالة عن نفسي وبالنيابة عن أطفالي باتباع حمية بصرية وعقلية، بل وعاطفية قاسية تجاه مشاهدة التلفزيون إلا في أضيق الحدود التي لا تعزلنا عن العالم ولا تولِّد في الأولاد قدر المستطاع عقدة (كل ممنوع مرغوب).. كان ذلك قبل اتساع دائرة البث الفضائي حين كان وجود الصحون الفضائية على أسطح البيوت تعبيراً عن تميُّز اجتماعي ودليل ثراء أو انفتاح أو الاثنين معاً، كما كان ذلك قبل استشراء مواده الاستهلاكية من الإعلان إلى التعري العلني إلى العنف السمعي والبصري إلى وسائل الاستخفاف المنظَّمة بالعقل والوقت. وفي ظني لو أُجريت دراسة على الحالة الذهنية على ما يجري عرضه اليوم من مواد معظمها مواد مؤلمة لكل من يملك ضميراً ومندية للجبين، لكل من يفقد حاسة الحياء فلا بد أن مثل هذه الدراسة لو وجدت ستتوصل إلى أن النشاط الذهني لمتابعي الفضائيات يساوي معدل عمله تحت التخدير.. بما يذكِّر أجيالاً منا بتلك الحالة من التبلد التي قد تصلها بعض المجتمعات بمحض إرادتها كما تحدثت عنها إحدى قصائد نزار قباني في مرحلة ما بعد هزيمة حزيران 1967م، والتي كانت قد مُنعت وقتها من التداول والقراءة في معظم العواصم العربية إما خوفاً من اكتشاف تلك الحالة الحادة من حبور الإحباط الناتج عن وضع الخدر العام بين شعوبها أو خوفاً من العدوى.
هذه مجرد شذرات مما لم أستطع أن أخفيه من الهواجس التي حاكت في عقلي حين اكتشفت أن هناك ما قد يستحق أن أرفع بعض حرمان الحمية التلفزيونية عن عيوني وأتخلى عن التقشف البصري الذي كنت أمارسه بسخاء مع نفسي بما يقصر متابعاتي تقريباً على بعض المتابعات المحدودة للفضائيات باستثناء الأخبار وبعض البرامج القليلة أو السينما المنزلية لما أخاله عروضاً جيدة تحترم ذكاء الإنسان أو على الأقل لا تؤذي الذائقة وتعادي الخيال.. فلأول مرة منذ سنين أعثر على برنامج عربي يملك الجرأة على الاعتراف بحالة الخدر العام التي نعانيها فلا يضيع الوقت في مكابرتها، أو تجاهلها البكاء على الأطلال أو تبديد الوقت في تقديم عظات متعالية على الشباب لمزيد من التأزيم والتيئيس من معالجتها.
فجأة صار لي ولأسرتي ولجيراني برنامج مشترك نتابعه بشغف ونذكِّر بعضنا بعضاً بمواعيده بل بمواعيد إعادته.
مع أنني لا أذكر أنه كان لنا مثل هذه العادة العائلية إلا عندما كنت فتاة صغيرة في بيت أهلي يوم كنا نتابع الشيخ علي الطنطاوي -رحمه الله- في طلته ما بعد صلاة الجمعة من كل أسبوع أو في طلته الرمضانية.
يسمي عمرو خالد برنامجه (صنَّاع الحياة) وأُسميه (تنقية الهواء) (استرداد الأجنحة) (بارقة الأمل) وكل ما مرَّ على اللغة من أسماء تكشف عن قدرة الإرادة الإنسانية المشتركة في النوع والأعمار والمواقع على التحدي والعناد لعمارة الأرض.. ولئلا يبدو حديثي عن البرنامج حديثاً عاطفياً فإنني هنا أقصر تناولي على بعض السمات فقط من مجمل سمات هذا البرنامج التي تميّزه في رأيي عما سواه وتجعل وجوده حيوياً لتخلي المجتمع العربي والإسلامي عن حالة الخدر العام التي نرفل فيها حتى صار التاريخ يمر بجانبنا ولا يرانا إلا موضوعاً للهزيمة.
السمة الأولى هي سمة المشاركة بالرأي: إنه برنامج غير فردي بالمعنى الاستفرادي بالرأي ولكنه على العكس من ذلك برنامج يؤسس للعمل الجمعي التشاوري المشترك، وذلك دون إقصاء للتمايز الفردي.. وهذا النوع من المشاركة يُشكِّل شرارة أولى يمكن إذكاء نورها بمزيد من الدربة (البرلمانية) إن صح التعبير بين الجمهور الحاضر والمتابع فضائياً، بحيث تصبح المشاركات الإلكترونية أو سواها مما تحمله وسائل الاتصال جزءاً عضوياً من المشهد وليس مجرد ضيفة على البرنامج.
فهذا البرنامج ينزع المشاهد من مقعده التقليدي مقعد (المتلقي السالب) ليورطه في موقع جديد هو موقع المُشاهِد المطالب بالتفاعل مع ما يشاهد ولشعب تعوّد أن يؤثر مضغ قات الصمت بكل مرارته وإن تآكلت لثته على أن يجرب شجاعة الرأي ولشباب تعوَّد التهميش والتسفيه فإن هذه السمة تستعيد للمشاهد أو على الأقل ربما تساعده على التدرب على الحضور بدل التغييب وعلى الإيجابية بدل الانسحاب وعلى المشاركة بدل الانكفاء.
السمة الثانية هي سمة المشاركة بالعمل: وهي مرحلة أكثر تقدماً وأشد صعوبة من المرحلة السابقة.. فإن نفكر بصوت مشترك مسموع نقلة نوعية في تفكيرنا الأحادي واستغراقنا الفردي في ذواتنا المعزولة والعزلاء، ولكن أن تنتقل من مرحلة المشاركة الشفهية والمكتوبة إلى مرحلة العمل بأيدٍ مشتركة نقلة كمية وكيفية معاً تتطلب درجة أعلى من القناعة بما نفكر كما تتطلب شجاعة إعادة التفكير في القناعات ودرجة أعلى من الالتزام العملي تجاه ما نفكر به.. فتلك الفتاة التي صادرت ظروف الاحتلال الإسرائيلي مساحة الحركة الجسدية لشعبها لتكتشف مساحات للركض لم تكن تعلم بامكاناتها الكامنة قبل أن تجرب المشي في ممر بيتها الضيق القصير إنما تعبر عن حالات لا تحصى من حالات الإعاقة التي عادة ما تشلنا وتجد لنا الأعذار لنكتفي بلعن الظلام ونستسلم للعجز براحة ضميرية ولكن الصوت المشترك للتفكير والسواعد المشتركة للعمل والشعور بعدم العزلة استطاعت أن تنشل تلك الفتاة وتنشلنا من قلة الحيلة إلى الغزل بظلف الذئب، وهذه السمة هي أيضاً من السمات التي يمكن اكتشاف أبعاد أخرى فيها بحيث يكون العمل المشترك من جنس الحاجة الاجتماعية وليس متشابهاً تشابهاً تناسخياً أو كربونياً باسم عموم المشتركات أو لمجرد إضفاء سمة الجمعية عليه.. ففي مجتمع قد يكون العمل المشترك المُلح جمع (كتب المقررات الدراسية عن السنوات السابقة وإعادة تأهيلها لاستخدام طلاب جدد) وفي أخرى قد يكون جمع الألبسة وإعادة توزيعها وفي أخرى قد تكون الحاجة الجماعية المُلحة حملة لمقاومة وباء أو مرض معين.
السمة الثالثة هي سمة التفاعل الحر مع تجارب المجتمع الإنساني: فإذا كان هذا البرنامج على خلاف تلك النوعية من البرامج التي تحاول أن تتستر على منطلقاتها الفكرية فإنه أيضاً على خلاف ذلك النوع الآخر من البرامج التي لا تقوم لها قائمة إلا بتسفيه كل توجه فكري لا يلتقي مع منطلقاتها.. فمما يلفت النظر هو تعددية الأمثلة الاستنهاضية لهمة المجتمع العربي والإسلامي، فأمثلة الخروج من رماد الهزائم إلى فضاءات التحرر والنهضة تتعدد من يوم الفتح بعد صلح الحديبية إلى خروج مارد التصنيع الياباني على حالة العدم العسكري التي سوَّت هورشيما ونجزاكي بالتراب وإلى عودة العافية إلى ألمانيا بعد أقل من ربع قرن على انكسارها بعد الحرب العالمية الثانية، ومن حلم محمد الفاتح المستحيل إلى حلم رجل بسيط اسمه هوندا.. وهذه مجرد محرضات ذهنية صغيرة فمن شاهد الشاب السوري خلدون الذي تحدى الشلل وحرَّك جهاز الكمبيوتر برموشه لا بد أن تبرق في ذاكرته هيلين كيلر والمعري وبورخس وأمثلة إنسانية سامقة تحدّت الانسحاب بالاحلام والكفاح.
السمة الرابعة هي تأجيج الخيال: فهو ببساطة يرد الاعتبار لموقع النساء والشباب في المجتمع وينفث في تلك الصدور الضامرة خضوعاً أو المنتفخة خيلاء خاوياً شعلة الحياة.. إنه محاولة لإطلاق قلق الأمل وفرس الأسئلة بدل الاسترخاء والموات في راحة اليأس.. فما أضر أعداء شباب المجتمع العربي والإسلامي اليوم هو عداوته لنفسه وعدم ثقته في قدرته على تغيير أو تطوير واقعه واعتقاده أن ذلك يحتاج إلى معجزة خارجية أو داخلية فوق طاقته. إن فشل الخيال وراحة اليأس ولذائذ الذل أو غرور الشعور بأننا في كل ما يجري لنا مغلوبون على أمرنا كفيلة بأن تحوِّل أجسادنا إلى أكفان ندب فيها على الأرض دون أن نحس بتجرح الركب.. وليس من حل سحري إلا أن ننصف أنفسنا من أنفسنا.
كما لا يمكن اختتام هذه الشهادة الموضوعية دون أن نذكر ما يقترفه هذا البرنامج في حق جهلنا من محاولات بارعة لمحو الأمية الشرعية لدى قطاع واسع من المجتمع.. وهذه الإضاءة مما يمكن توسيع دائرة نورها بإعادة النظر فيما جرى قفله من أحكام مطبقة في فقه المعاملات.
أما السر في هذا البرنامج فهو ما اعتبره مدرسة جديدة في إعادة قراءة القرآن والسنة قراءة عصرية تكشف ما في كل منهما من طاقات لا تنفد عبر الزمان والمكان لإمداد الإنسان بأسباب الحياة الكريمة في الدنيا والآخرة.. هذا ولله الأمر من قبل ومن بعد.
|