الثقافة هي مفتاح عجيب يضمن لك نجاحاً منقطع النظير في حياة جديدة الإهاب، سريعة النفَس، حثيثة الخطو، متقلبة المزاج، جمعت الناس بين لابتي قرية كونية صغيرة، فما عليك إلا أن تجلس أمام جهاز صغير بحجم حقيبة اليد، فإذا هو ينقلك بين أرجاء العالم، وأطراف الدنيا، وأنت في بيتك، من هنا يتأكد بل يجب عليك لزاماً ان تبدأ بتثقيف نفسك أولاً ثم أفراد عائلتك ثانياً، وهكذا، والثقافة كمشكلة دُرست من قِبل مفكرين وعمالقة ومحللين سياسيين ويأتي على رأسهم المفكر الإسلامي الجزائري (مالك بن نبي) والذي عاصر الاستعمار فعصر مطامعه واعتصر أطماعه، لاسيما ان الجزائر ظلت ما يقرب من مائة عام أي قرن كامل تحت ظلم الاستعمار وقهره ثم ما لبثت ان فازت بالحرية والاستقلال. فترنم شاعر الحربية بقوله:
إذا الشعب يوماً أراد الحياة
فلا بد ان يستجيب القدر |
ومن يطلع على كتب المفكر الجزائري ( مالك نبي) أثناء تحديده لمشكلة الثقافة يلمح إحاطته بكل فن فهو خبير في حقائق علم الاجتماع، ومن ذلك اهتمامه بمقدمة ابن خلدون في علم الاجتماع، كما انه في تناوله للثقافة كمشكلة لابد من إيجاد حلٍ حاسمٍ لها يولي عناية واهتماماً بكل ما يتصل بها كالإدارة بأنواعها من سياسية وشرعية وتعليمية واقتصادية وإدارية، كما ان كيفية إدارة الثقافة ومعالجتها تحتاج إلى طاقة عقلية وقادة، وعزيمة جبارة، وإرادة قهارة، وهذا المفكر العبقري يتنبه لدراسة ثقافة شعب من الشعوب السريعة التفوق، الحثيثة الخطو، الناهضة الحضارة، حتى استطاعت بفضل الإرادة والعزم والصمود والعقل والتأمل ان تصبح القوة الاقتصادية الثالثة في العالم إبان الحرب العالمية الثانية.
والسر يعزوه (مالك بن نبي) إلى الأسلوب العجيب في إدارة ذلك الجهاز المليء بالملايين من العقول المفكرة، والأيدي العاملة، والسواعد الممتدة، فتمت إدارته بطريقة دبلوماسية محنكة مدروسة ودار هذا الجهاز المحمل بملايين الأيدي، وآلاف السواعد، ويمكن لنا ان نسمي هذا الجهاز منجم (الذهب) ويا الله فحينما دار ونتج عنه ما نتج لم يصبح منجم ذهب، بل صار منجم درر وجواهر ونفط وطاقات وكل ما يخطر في العقل وكل ما لم يخطر، إلى عرش تبوأته اليابان اليوم ونالت احتراماً وتحية وتقديراً من قِبل دول العالم العظمى المسيطرة على جبروته وقوته وسلاحه.
وبهذا يعتبر (مالك بن نبي) من أبرز رجالات العالم الإسلامي الذين عنوا بهذه الناحية الثقافية، وأولوها جانباً كبيراً من البحث والتقصي والعناية حتى وصلوا إلى نظريات فكرية، وأبعاد ثقافية، وتحليلات فلسفية، استطاعت ان تضع النظم الثقافية لهذه المشكلة الثقافية والبحث لها عن حلول ضمن توجيه أخلاقي جمالي إسلامي صحيح منهجي، وكثيراً ما كان المفكر الجزائري الإسلامي، والمحلل السياسي (مالك) يتطرق إلى مشكلة الأفكار في البلاد الإسلامية، ثم مدى تأثير المستعمر فيها، يظهر هذا في كتابه (مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي).
ولعل القارئ الكريم ينتابه العجب حينما يعلم ان نهضة دول (اليابان) الحديثة بعد الحرب العالمية الثانية هي قريبة جدا من نهضة تاريخ الدول العربية أيضا بعد الحرب العالمية الثانية، وإذا بحثنا عن مكمن الخلل، وسبب الاختلاف، ونسبة الافتراق، نجد ان الأمر يعود إلى (الأفكار) من ناحية ومن ناحية أخرى كما ورد سابقاً إلى كيفية إدارة جهاز مليارات الطاقات من الأيدي والسواعد والهمم والطاقات والعقول والأفكار وغيرها:
نفسُ عصام سوّدت عصاما
وعلّمته الكرّ والإقداما
وصيّرته بطلاً هُماما
حتى علا وجاوز الأقواما |
ومن هنا نقول: لقد كان من المحتمل هزيمة اليابان هزيمة منكرة ساحقة بعد الحرب العالمية الثانية أمام قوتين عالميتين عظيمتين، (السوفيت - أمريكا)، ولكن العكس حدث، وهو الإرادة والعقل والعزم والتأمل والعمل حتى صارت ثالث قوة اقتصادية في العالم إذعنت أمامها دول العالم الكبرى وكل هذا حدث في فترة وجيزة لا تتجاوز ثلاثة عقود من نهاية الحرب العالمية الثانية.
ويرى بعض الكتاب الفضلاء ان نجاح الشعب الياباني في تجربته هذه وتفوقه هذا، يعتبر نجاحاً إنسانياً يستطيع ان يحققه أي شعب إذا توفرت له الظروف التي توفرت لليابانيين، وما دام ان موضوعنا الآن يدور في بوتقة الساعة عن الثقافة كمشكلة وحل فسؤالنا المطروح: ما هو السر في رواج الثقافة اليابانية وتميزها وحرص المواطن الياباني نفسه على هويته؟؟؟
وإجابة السؤال كما جاء في كتاب (التفوق الياباني وملامح التجربة العربية) من ذلك ان الثقافة جزء من هوية الأمة والشعب الياباني من أشد الأمم حفاظاً على هويته وحباً وتعصباً لقوميته. وحققت الثقافة في اليابان تواجداً في تعدد وسائلها وجودة وغزارة مادتها، حتى صارت عاملاً هاماً ورافداً قوياً في مسار البناء الحضاري.
إن اليابان لم تقف من حالة الانبهار، أو الخوف من طوفان المد الثقافي والإعلامي الجارف كما وقفت الدول الأوروبية عامة مثلا أمام تدفق المادة الإعلامية والثقافية الأمريكية بما حملته من إثارة وإمكانات التصنيع، والتي وجدت في ذلك تهديداً يفصم عرى التراث والثقافة المحلية، وهدماً لأسوار القيم والمبادئ القومية، وترسيخاً لمعالم الشخصية الأمريكية في المجتمع المستقبل لها، فمشكلة الغزو الثقافي والحضاري عامة، والذي ارتعدت له أفئدة كثير من الشعوب قوبل في اليابان بشيء من البرود، لا تبلداً في الإحساس أو زهداً في المادة المحلية أو تجاهلاً لتقدير العواقب.
فالشعب الياباني لا يزال شديد الاعتزاز بهوية ثقافية عالية المستوى يناضل من أجلها ويدعم مسارها، وفي عام 1970م انتحر الروائي المشهور (ميشيما) في مبنى وزارة الدفاع اليابانية وأمام عدد من الجنود، بعد ان تحدث للجميع عن عظمة التاريخ والمجد الياباني وضرورة المحافظة عليه، وذكر ما يواجهه هذا المجتمع من تحديات وافدة عليه.
إذا ثلاث هي:
أحجار الثقافة اليابانية: الإرادة، الصبر، والعمل.
فإرادة اليابان هي قائدته في هذه الحياة، فقد كانت عظيمة جسيمة فولاذية، وهي التي حضته على تخطي الصعاب التي اعترضت نشاطه الثقافي، وأثقلت كاهله بالتبعات الجسام، حتى صار إلى ما صار إليه اليوم، وقد اعتمد على طاقته العقلية، وإرادته الذهنية، وتدرع بالصبر، وعمل بدأب حثيث، فأخذ يبحث وينقب ويدرس ويقلب ويناضل ويجاهد، وانكب على دراساته وأبحاثه وتجاربه وتطبيقاته وعلومه وكتبه وخططه حتى بزع الفجر، وشعَّ النور، وأضاءت الشمس، وأقبلت الآمال، وأنجزت الأهداف، وصار شعباً ماضي العزيمة، قوي الشكيمة.
ومشمعلٌ أخو عزم يشيّعه
قلب صروم إذا ما همّ لم يهب |
وعند الشعب الصيني مثل يقولون فيه: (لولا العمل لانقرض الناس من العالم)، ويأتي الشعب الياباني في مصاف دول العالم الكبرى المثقفة الرائجة الثقافة وذلك لأمور سابقة سلفت، كذلك لحب هذا الشعب لهويته الثقافية، وهيامه بالعمل فهو لا يهتم بالزمان والمكان فكل زمان ومكان وظرف وطقس ومناخ هو مناسب للعمل، فاليابانيون من أحرص الشعوب على التعليم من ناحية وعلى الثقافة من ناحية أخرى، فهم مشغولون بالأداء والانغماس في محيط تعليمهم وثقافتهم، لذلك فإن أطول ساعات عمل وأقصر أيام إجازة، وأطول يوم وعام دراسي وأقصر عطلة دراسية هي في اليابان.
فالياباني مشغول في دائرة العمل يعمل خارج أوقات الدوام لإنجاز بعض المهام بدون مقابل ومن هنا ظهرت مؤخراً عيادات نفسية مهمتها علاج مشاكل إدمان العمل، هذا على حد قول الأستاذ الباحث الفاضل عبدالرحمن بن صالح المشيقح في كتابه: (التفوق الياباني وملامح التجربة العربية) وهذا ما لفت نظري مع ان اليابانيين هم من اخترع فكرة مجموعات (الجودة) تلك المجموعات الصغيرة من العمال التي تعمل ساعات عديدة خارج الدوام لتطوير البلاد بعد الدمار والخراب الذي حلّ بها إثر الحرب، وفعلا كان لها الأثر الكبير في تطوير البلاد ولم الشعث، ومما يميز الفرد الياباني النشاط، هو فرد جاهز مستعد صاحب ثقافة واسعة، على علم بكل ما يجري حوله، جاهز للعمل في أي وقت، فنرى اليابانيين يملكون قدرة عظيمة، وسرعة باهرة، على القيام بأعمالهم التجارية في أي مكان، يقول مراسل مجلة (بانكوك اكونميست): بينما كان رجل الأعمال البريطاني ك.م.فوغ يرتاح إلى حافة حوض سباحة في كوالالمبور بماليزيا سبح إليه أحد اليابانيين وشرعا في الحديث، وقد جاء في رسالة وجهها فوغ إلى صحيفة (التايمز) في لندن: (حالما توصلنا إلى الاتفاق على بعض النقاط ذات المصلحة المشتركة سحب الياباني من سرواله بطاقة مغلفة ضد الماء تتضمن اسمه وعنوانه التجاري، وناولني إياها، فما حظنا من النجاح يا ترى أمام مثل هذه المنافسة؟؟).
ولكي أجيبك عزيزي القارئ على السؤال الذي ورد قبل قليل عن السر في رواج الثقافة اليابانية وسر عبقريتها تأمل معي الآتي:
- اليابان دولة عظيمة تشترك في صناعة مادتها الثقافية الرائجة عالمياً ودولياً على كافة المستويات وبمختلف الوسائل.
- حققت اليابان إنجازاً ثقافياً عالياً في مجال المادة المقروءة والمشاهدة والمسموعة جعلت المواطن يعيش حالة الاكتفاء، ففي مجال المادة المقروءة نجد انه لضخامة عدد المطبوعات وعظمة الإقبال عليها توصف اليابان بأنها أمة من القراء النهمين.
- للصحف والمجلات توزيعات كبيرة تستخدم كقنوات حيوية لنشر المعلومات في أنحاء البلاد، ففي أكتوبر من عام 1986م كان في البلاد 124 صحيفة يومية جملة توزيعها اليومي 48 مليون نسخة مما يعني ان كل أسرة تقرأ في المتوسط 1.25 صحيفة كل يوم.
- بلغ عدد الكتب المطبوعة عام 1986م (6290) وهذا العدد الكبير، والمعدل المرتفع، يسفر عن شعب قارئ من الدرجة الأولى بلا شك، هذا بالإضافة إلى ان هذا الشعب فيه ميل غريزي وطبع وجبلة إلى الهيام والعشق للتزود من العلوم والمعارف والثقافات، وأدل دليل على ذلك المكتبات اليابانية المكتظة بالقراء والمثقفين والمتعلمين والباحثين، فالشعب الياباني أقبل على التعليم والثقافة بحرص واهتمام فكان له ما كان، يقول أحد المهتمين بتاريخ الشعوب وثقافاتهم وتعليمهم وتربيتهم: (إن المرء لن ينسى قط منظر الأمهات اليابانيات وهن جلوس في مقاعد أبنائهن في الصفوف الدراسية إذا أقعدهن المرض عن مواصلة الدروس حتى لا تفوتهن المعلومات التي تقدم يوماً بيوم)، ويقول أودين ريشوبر: (لا يوجد في أي بلد آخر على الأرجح الرغبة في التعليم كما هو الأمر في اليابان نفسه، ويندر ان يوجد بلد في العالم يمكن مقارنته باليابان في هذا الشأن).
وأخيراً فالثقافة هي معارف الأمة المتشكلة في تجاربها المتجسدة في أنماط سلوكها الاجتماعي والأخلاقي، وهذا الجانب النظري الرمزي من هذه التجارب هو النمط الحامل لتاريخ فعل الإنسان وتجربته الحضارية العاكسة لواقع الأمة، والمعبرة عن طموحاتها المستقبلية.
عنوان المراسلة
ص ب 54753 الرياض 11524 |