يفترض أن نعود بعد إجازة الصيف القصيرة ممشوقين بلياقة جديدة وطاقات خلاقة لمواصلة المشوار ، غير أن واقع المجتمع العربي والإسلامي لا يسمح بإجازة لا تلاحقها هواجس الفواجع ويحاصرها مد الانحسار ، حتى صار المثقف والمواطن العربي كالحامل التي تحمل حملها معها أنى ذهبت كما يقال في المثل الشعبي.
وقد لاحظت من خلال متابعتي لعدد من حوارات المثقفين العرب ، فيما يسمونه بشهر آب اللهاب في لبنان أن هناك من يحاول باستحياء أو بيأس ، أن يشق أبخرة الدخان الخانقة المنبعثة من احتراق الجثث في العراق وتفحم لحم الأطفال الحر في فلسطين ، وغياب الرؤية المخيف الممتد من المحيط إلى الخليج ، سواء ذلك المتمثل في التخبط الرسمي للأنظمة العربية أو في التخوف المرضي الشامخ لدى الشعوب من هيبة الخيبات ، بسؤال ما هو دور المثقف في الأزمات السياسية التي يمر بها العالم العربي؟
ومثل هذا السؤال الذي كان يبدو سؤالاً فتياً ممشوقاً ، يؤسس لشرعية المثقف في التفاعل المسئول مع أزمات مجتمعه ، وحقه في ملاحقة سواد الأحداث بالأسئلة والبحث له عن دور غير منسحب في مجراها في الستينات والسبعينات من القرن الماضي ، كما نلمس إلى اليوم في قصائد السياب وشعر المقاومة وتنظيرات كليف مقصود والشرابي والعروي وغيث والخولي ، وكتابات غادة السمان وكوليت خوري القصصية والروائية وفي رسائل جبرا إبراهيم جبرا وتوفيق زياد والخال التي نبشها مؤخراً رياض الريس ، يبدو اليوم سؤالاً منكسرا متلفتا بين سنديان خوف بعض الحكومات من ظلها وليس من مثقفيها وحسب ، واستسلام المجتمع رغبة ورهبة معا لنعمة الرعب.
والحقيقة أن السؤال لا يخلو من سخرية سوداء في الدائرة الخانقة لسلسلة الأزمات العميقة ، التي تطوق المثقف والمواطن العربي ككل بل والحكومات أيضاً في هذه المرحلة التاريخية المخاتلة ، التي جعلتنا لا نفشل فقط في استقبال القرن الجديد بأحلام ومشاريع النهضة كما في القرن السابق ، بل نستقبله بإشهار فشلنا فيها وفشلنا في مجرد تخيل أحلام جديدة لهذا القرن ، وهذا لعله أكثر مما تحلم به قوى التسلط العالمي في تحويلنا وليس فقط تحويل نفطنا إلى وقود لأحلامها التوسعية التي لا تؤسس لنفسها على أقل من محو هويتنا وملامح وجوه أجنتنا قبل أن يولدوا ، فيصبح سؤال مثل سؤال ما هو دور المثقف في الأزمات امتداداً لحالة الإحباط والحصار العام ، بما يجعل جسد المثقف أحد أوسع مساحات سجنه الجماعي ، فيبدو وكأن السؤال إمعاناً في إغاظة المثقف بخيارات لم يستشر فيها ، وعليه تبنيها وكأنها خياراته العقلية الراشدة المستقلة.
غير أن فضيلة بعض الأسئلة تكمن في طاقاتها على وضعنا وجها لوجه في مواجهة أنفسنا وعلى فضح عورات العجز ، أما بعض رذيلة الأسئلة فتكون في الاستدراج للحصول على إجابة جاهزة وحيدة الجانب على أنها الإجابة الوحيدة الصحيحة ، وبعض الأسئلة يكون ذا خصائص محفزة تكمن في محاولته فتح الباب على مصراعيه على احتمالات لم تكن في حسبان السائل.
فعلى أي محمل يمكن أن يحمل هذا السؤال ، خاصة ونحن نعيش يومياً حالة المثقف العربي التي تشي بعدم تكافؤ السباق بين المثقف وبين التحولات ووحشية الحدث ، فعلى سبيل المثال ليس إلا .. بينما كانت تُجرف أفغانستان طوال شهر رمضان خارج المجرة شتاء 2002م ، وبينما كانت مجزرة جنين تُبَث جثة جثة حارة حية على الهواء مباشرة ربيع 2003م فتقلب سكون الشارع العربي إلى حالة من السخط المتخبط العام ، وبينما يتهدم العراق صيف 2004م لبنة لبنة على مرأى من عواصم العالم كله ، بما فيه تلك التي ادعت أنها تحتله بهدف إعماره ! ، كان المثقف العربي منقسماً بين الولاء لتنظيرات القرن السابق من اليمين إلى اليسار إلى الوسط ، وبين عدم قدرته تصور رؤية جديدة.
ولم تكن حالة انعدام الرؤية وعمى الألوان ترجع فقط لصدأ أدوات تحليل هذا المثقف ، ولكن أيضاً لكثرة الكلس السياسي الذي تراكم على أصابعه وسد صمامات قلبه فأفقده عفوية الحس النقدي ، ناهيك عن الحس الإبداعي لاستيعاب ما يجري أو استلهامه ، لاستشعار أفق أعلى من السقف الوطيء الذي يجرح جمجمته كلما توهم التحرك.
والجارح في هذا الموضوع انه لم يكن مقتصرا كما لمسته لمس اليد من حوار وصمت المثقفين أنفسهم على أولئك المثقفين المخضرمين ، الذين عادة ما يصعب عليهم الإقلاع عن عاداتهم الأيدلوجية في هذا الاتجاه الشمولي أو ذاك ، ولكن مع الأسف كانت الإشكالية تشمل حتى أولئك المثقفين الجدد الذين يجيدون التواجد في فضاء الإنترنت ، فرغم مفاتيح التكنولوجيا فان الغالبية العظمى منهم لا تدري كيف تطور طروحات جديدة لهذا الوضع العربي المزمن في التردي ، وكأن الفضاء العنكبوتي المتخيل أو الحقيقي للحرية لا يفعل إلا زيادة الحصار وتضييق الخناق على المثقفين الشباب ، بين سطوة السائد والرائج السياسي من ناحية وبين مصادرة حقهم كجيل مثقف جديد في البحث عن بدائل رؤيوية خارج سلطة الحرس القديم والمستجد أو المستبد من الذين نصبوا أنفسهم أوصياء دون أن ينتخبهم أحد على مصير هذه الأمة وعلى أفقها المستقبلي في وجه أي طروحات ثقافية أو سياسية لا تتقاطع مع مسلماتهم.
هل تراني حاولت تبسيط هذا السؤال الجارح الذي تدور أقداحه القلقة على الشفاه المتقرحة ظمأ أو صمتاً للمثقفين العرب (عن دور المثقف العربي في الأزمات أم أنني زدت السؤال تعقيداً) ، بأن بالغت في توصيف أزمة المثقف باعتبارها من منظور علم اجتماع المعرفة مجرد تعبير سافر عن أزمة اجتماعية عامة بالمجتمع العربي والإسلامي معا ما زال جاريا مع الأسف محاولة التستر عليها.
ما هو دور المثقف في الأزمات السياسية؟
هناك أكثر من مدرسة وأكثر من اجتهاد للإجابة عن هذا السؤال؟
هناك من قال بالدور التحريضي للمثقف ، وفي هذا لابد أن نسأل وفي إطار حالتنا الراهنة.. هل يتاح للمثقف مثل هذا الدور إلا في التحريض ضد نفسه لمجرد طرح رأي لا يسير في هوى الاستسلام ؟ ، هناك من رأى أن للمثقف دوراً تنويرياً طليعياً ينبع من انتمائه العضوي لجماعة اجتماعية معينة ، كما اقترح (جرامشي) وحاول هو نفسه أن يفعل ذلك عندما كتب ملاحظاته في السجن عن مخاض المجتمع الإيطالي.
وفي هذا لا ترحمنا الأسئلة : هل ما زال بإمكان المثقف ممارسة هذه الوظيفة في ظل عولمة الإعلام الإلكتروني داخل قرى لم تصلها الكهرباء بعد ؟ في أي نفق من أنفاق العتمة يمكن أن يمارس المثقف دورا (تنويريا) ، والانفاق تلتف حول عنقه وكأن حبلاً واحداً لا يكفي لشنق العصفور ؟ وبالإضافة إلى تلك الاجتهادات النظرية هناك من يتمسك بالإصرار على الدور النقدي للمثقف ، كما قال الإمام علي - كرم الله وجهه - : (كن في الناس ولا تكن معهم) ، ولكن أي نقد عندما تضيق العبارة دون أن تتسع الرؤية لأكثر من زواية للنظر ، فيصبح موقف المثقف النقدي مجالاً لاستعداء السلطات عليه ومجلبة لشقائه الشخصي دون أن يحقق أي خلاص جماعي.
باختصار هل يعيش المثقف العربي اليوم حالة من التباهي بهيبة التراجعات ، هل يعيش أزهى أزمنة الزهو بالهزائم أو يعيش التلذذ الماشوسي الشرس بجلد الذات ، كما يعيش حالة شاهقة من نرجسية الجبن الجماعي كما يفعل معظمنا هذه الأيام ؟ فنعيش الامتداد الزمني بشكل يخلو من أي تراكمات غير تراكم خيراتنا التاريخية المخجلة في إعادة إنتاج شروط الانهزام المرة تلو الأخرى. وبالإضافة إلى كل هذا النعيم العقلي واللامعقول الذي يرفل فيه المثقف العربي ، هناك الضيق بالآخر وكأنه الغريم أو كأن ليس لدينا ما يكفي من الأعداء ، هناك الميل إلى تملُّق القارئ أو استدرار عطف الشارع بالشعارات أو بتكرار طرح رؤية أحادية ، لا تتحدى ما تعودنا عليه أو ما اطمأنت إليه نفوسنا من القول رغم التحولات التي يعصف مجهولها بمعلومنا.
لقد أوشكت أن تتحول بطالة المثقف ومشاركته في تعطيل دوره إلى بطولة مطلقة لا ينازعه عليها أحد.
ولنخرج على جور المثقف المحصور في دور (المتفرج) السالب أو المتواطىء النشط علينا أن نجترح أحداقاً جديدة للبصر وأدوات جديدة للكتابة.
فياللوصفة السحرية التي لا تتطلب أكثر من شجاعة الخيال ، إلا أن ما يبدو أن أياً من المثقفين الباكين والمتباكين على ما آلت إليه الحال العربية لا يمتلك التهور الكافي لارتكاب تلك الشجاعة.
على أننا على الصعيد المحلي ليس لنا إلا أن نتمسك بحرارة الإيمان وسراب التفاؤل ، فبعد أقل من أسبوعين ستعقد وزارة الثقافة والإعلام (الملتقى الأول للمثقفين السعوديين) ، وعناوين محاور هذا اللقاء مشجعة جداً على أن نبحث عن إجابات جادة لبعض الأسئلة.
هذا ولله الأمر من قبل ومن بعد.
تعليق إضافي
وبما أن الشيء بالشيء يذكر .. فقد رأيت أزمة هذا السؤال عن دور المثقف في الأزمات عالميا ، أو بدقة أكثر أمريكيا في فيلم فهرنهايت 11 -9 للمخرج الأمريكي مايكل مور ، فهذا المثقف وهو يطرح فيلما نقديا لسياسة اليمين المحافظ بأمريكا التي توشك أن تقود العالم إلى الهلاك ، تجنب أو لم يتجرأ على طرح سؤال واحد في الاتجاه الموضوعي عن دور إسرائيل وموقعها المحوري في الخراب الذي توزعه بلاده على الشعب الأمريكي وعلى شعوب هذه المنطقة.
ولا أستطيع أن اقبل للحظة واحدة كيف لمثقف يتبنى موقفا نقديا من الحرب العسكرية والإعلامية التي تشنها الإدارة الأمريكية على المنطقة ، واحتلالها للعراق وتضليلها لشعبها ويدافع عن حقوق الإنسان في أمريكا أن يطرح ذلك السؤال الساذج الذي ينكر على الحكومة السعودية امتناعها عن تسليم نفر من أقرباء وأسر المتهمين في قضية تفجيرات سبتمبر للإف بي آي الأمريكية للتحقيق معهم.
فأولا : مَنْ يعطي الحق لدولة مهما بلغت من القوة لتحقق مع مواطني دولة أخرى ذات سيادة وطنية على أرضها ، وهذا الموقف يعتبر في رأينا في ميزان الحسنات وليس العكس.
وثانياً : بأي شرعة غير شرعة صدام يمكن أن يكون أهل المتهم أو أفراد من الأسرة عرضة للتحقيق فيما ينسب إليه ، وهذا يدعو كل مشاهد موضوعي لذلك الفيلم لأن يتساءل هل من دور المثقف في أزمات بلاده أن يتخلى عن مفهوم السيادة الوطنية للبلدان الأخرى وحقوق الإنسان فيها ؟ ، لينكر مور على الحكومة السعودية موقفها المتمسك بسيادتها الوطنية ورفضها تسليم مواطنيها لسلطة أجنبية ، لتحقق معهم في تهمة نؤمن حكومة وشعباً انه لا تزر فيها وازرة وزر أخرى.
ويبقى سؤال الموضوعية كسؤال الحرية ، جزءاً جوهرياً من سؤال دور المثقف في الأزمات على المستويين العربي والعالمي معا وخاصة عندما تدلهم الأزمات كما هو واقع اليوم.
|