أزواج يعانون من غيرة زوجاتهم، وزوجات يشكون غيرة أزواجهن، والكل يدَّعي أن غيرته مصدرها الحب الأمر الذي يجعل الطرف المتضرر يضرب كفاً بكف ويقول: ولكن أي حب هذا الذي يحوِّل الحياة الزوجية إلى جحيم؟.! والحقيقة أن الغيرة دليل الحب حقاً، ولكنها إذا تجاوزت حدوداً معينة ودخلت في الخطوط الحمراء تحوَّلت إلى خطر.. وإذا قادت الغيرة إلى هاجس دائم وشكوك مستمرة، وأوهام مدمرة تحوَّلت إلى مرض لا شفاء منه إلا بالثقة المطلقة وهو الإيمان أو بانعدام الثقة تماماً، وهذا يعني أبغض الحلال، لأن الغيرة في هذه الحالة إذا أصبحت مرضاً مستفحلاً في نفس الزوج أو الزوجة أصبحت كالسرطان الذي يصعب الشفاء منه إلا لمن رحم الله.
لهذا يلزم الزوجين ألا يفتحا باباً للتوسع في هذا الأمر، وألا يتركا الشك يترسب دون يقين، فالثقة ملازم، أساسي للحب الحقيقي الذي تقوم عليه الحياة الزوجية، وبدون هذه الثقة تقوم الحياة الزوجية بلا أساس، ويظل الرباط المقدَّس بلا غطاء معرضاً لصفوف الرياح والأعاصير وحر الشمس ويستمر محروماً من النسمة الباردة الطرية اللينة.. النسمة التي تدخل البهجة والإحساس بجمال الحياة إلى النفس فتشعرها بالسعادة.
وهذا لا يعني أن يقتل الزوج، أو الزوجة دوافع الغيرة في نفسه، أو نفسها، فهي مشاعر طبيعية يشعر بها كل إنسان مدرك لما يمكن التجاوز عنه وما لا يمكن التجاوز عنه، وهو إنسان موقن بحدود الله وشرعه، وقد غارت زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم وغار الصحابة على زوجاتهم، والغيرة في هذه الحالة لا تعني الشك، ولكن قد تعني الإفراط في الحب الذي قد يدفع الإنسان أحياناً إلى مجانبة الصواب في حدود المباح، فقد جاء عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من عندها ليلاً، قالت: فغرت عليه أن يكون قد أتى بعض نسائه، فجاء فرأى ما أصنع، فقال: أغرت؟ فقلت: وهل مثلي لا يغار على مثلك؟.. (أخرجه مسلم والنسائي).
وعن أنس رضي الله عنه قال: أهدى بعض نساء النبي صلى الله عليه وسلم له قصعة من ثريد، وهو في بيت بعض نسائه، فضربت عائشة يد الخادمة فانكسرت القصعة، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يأخذ الثريد ويرده في القصعة ويقول: (كلوا.. غارت أمكم).. وفي رواية: أخرجها أبو داود والنسائي أن السيدة عائشة ندمت على ذلك، وقالت: يا رسول الله ما كفارة ما صنعت: فقال لها: (.. مثل إناء وطعام مثل طعام).
بهذا الحلم والصبر والأناة تعامل رسول الله صلى الله عليه وسلم مع هذا النوع المباح من الغيرة التي هي الحب.. أما عندما تهدد الغيرة كيان الأسرة وتحوِّل عش الزوجية إلى نار لا تهدأ أتونها، فقد تؤدي هذه الغيرة الظالمة إلى انحراف الطرف المظلوم نكاية في الظالم، وتحقيقاً لاتهام لم يصدق، وهو رد فعل عنيف خاطىء يقصد به صاحبه الانتقام، لهذا حذَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذه الغيرة الظالمة ونهى عنها، وقال: إنها (الغيرة التي يبغضها الله) وهي الغيرة في غير ريبة.. التي يكون الطرف الآخر منها براء.
لهذا يأمرنا ديننا بعدم التعامل، أو الحكم على الآخر من خلال (الشك) و (الريبة) التي ليس لها دليل بصرف النظر سواء كان هذا الآخر إنساناً اعتيادياً، أو صديقاً، أو قريباً.. فديننا يأمرنا بعدم أخذ الناس بالشك وإذا خامرنا الشك على المسلم الحق أن يتتبع ليتأكد, وفي هذا يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا شككتم فلا تحققوا)، وفي هذا ستر للأعراض، وحماية لعرض المسلم الذي ظاهره الخير، لأنه ليس من سلوك المسلم تتبع عورات الناس وفضحهم إذا استتروا أو الشك فيهم، والتحقق من هذا الشك حتى يصل إلى يقين قد يكون استنتاجاً وقد يكون حقيقة نهى الشرع عن تتبعها وكشف سترها.. وهذا أجدر بأن يحدث بين الزوجين، فلا يتعامل الزوج مع زوجته، أو الزوجة مع زوجها بافتراض الريبة والشك فيتتبعها، أو تتبعه، أو تفتش من خلفه، أو يفتش من خلفها سعياً وراء اكتشاف ريبة، فذلك يهدم جدار الثقة بينهما، ويزيل قواعد الاحترام ويحوِّل الحياة الزوجية إلى جحيم لا يُطاق.
قد يخطىء المسلم ويستتر وينوي عدم تكرار الخطأ، ولكنه إذا اكتشف من يتربص به، ويتتبعه ليمسك عليه هذا الخطأ ليفضحه ثار لكرامته الشخصية، ودافع عن خطئه مكابرة.. وهذا ما يحدث عادة من بعض الأزواج الذين تتجسس عليهم زوجاتهم لاكتشاف ما يريدون ستره فيسقط برقع الحياء بينهما وتجبره بسلوكها معه على المجاهرة بالمعصية بدلاً من التوبة عنها من خلال تكرار ذكرها له لإذلاله.
وهذا ليس من فعل الكِرام وليس من فعل المسلم الحق، ولا يليق بزوجة أن تدمر بيتها بهذه السرعة، وإنما تعطي الفرص للرجوع بالتسامح حيناً، وغض الطرف أحياناً إذا بلغ الأمر حداً لا يمكن السكوت عليه ولم يعد في قوس الصبر منزعاً فلا بد من المكاشفة التي ليس منها بد.
|