الصباح يسترخي خلف نافذة غرفتي.. يؤرجح شمساً باهتة الإشعاع على وشك أن تستحيل إلى سحابة بمعطف مطري خفيف، لكني كنت أعبىء في قلبي كآبة صباح خارج للتو إلى المدرسة!!
كان العصفور يغرد بصوت كالضياء منغماً بزخات مطر باردة، تهطل ندية فوق جناحيه الموردين بالشجر.. يأتيني صوت تغريده حاملاً إليَّ عطراً ملوناً بيوم جديد.. يوم يخرج من باب الزمن بحلته الجديدة ومفاجآته غير المعلنة.. وبدقائقه التي تحتفظ بثقل مرورها فوق جسد يومنا أو سرعته.
كانت السيارة تنتظر في الخارج .. والسائق يختفي خلف المقود وقد أحاطته سحابة نوم خفيفة سرعان ما فرَّت هاربة عندما أغلقت خلفي باب السيارة.. كنت قد تعمدت أن أغلقة بعنف.. ليفيق من غفوته.
سائق جديد.. بسيارة جديدة .. ويوم مكهرب بقيادته المخيفة!!
كان ينظر إلى الشارع أمامه كما لو كان ينظر إلى عالم جديد يدلف إليه لأول مرة.. ينسكب في حواريه فيتناثر في كل الأرجاء.. لمعة الخوف في عينيه تغيظني.. تجعلني أدرك أن عليَّ أن أكون متيقظة لمفاجآت الطريق.. وبحركة لا شعورية وجدتني أحيط نفسي بحزام الأمان المخصص للمقعد الخلفي.. واجهت صعوبة في إغلاقه خاصة وأن طرف العباءة كان يشبك مع حلقة الحزام.. استندت إلى المقعد.. يجب أن أكون دقيقة في وصفي.. تصلبت على المقعد.. هذا أول يوم أخرج فيه مع السائق لإيصالي إلى المدرسة .. كانت الإشارة في طريقها إلى أن تتلون بالأصفر.. راحت السيارة تهتز بين يديه.. تتردد بين أن تقف أو تواصل سيرها.
- ماذا حصل؟ لماذا السيارة تهتز؟!
يلتفت إليَّ بغباء .. تذكرت أنه لا يجيد التحدث بالعربية.. جربت الإشارة.. أخذت ألوِّح بيدي المذعورتين.. رأسه يلتفت ناحيتي.. والسيارة تريد أن تسابق الإشارة التي تلونت الآن بالأحمر، قلت بفزع: انظر أمامك .. قف.. ارجع إلى الخلف.
صارت الإشارة خلفنا.. ونحن نقف بكل بلاهة أمامها.. عاد بها إلى الوراء قليلاً. صرنا على حافتها.. هذا أفضل.. شعرت بقلبي كعصفور مذعور بقفصه الحديدي المغلق عليه والذي يتأرجح بعنف وسط عاصفة مرعبة!!
أخذت أترقبه.. الضوء الأخضر وكأنني أنا التي تجلس خلف مقود السيارة! عندما غمزت لنا الإشارة بأخضرها، شعرت بها وكأنها ترمي بي في معمعة الطريق بلا رحمة!
امتدت يد السائق إلى جهاز التسجيل (يا لهذا البرود)؟ بالثقة الكبيرة بنفسه..؟ بينما كنت أحترق في داخلي غيظاً، وأتجرع الندم ألواناً لخروجي معه دون أن أتأكد تماماً من إجادته للقيادة ومعرفته للطريق.
الطريق! وكالمجنونة أخذت أتلفت حولي.. وبصوت جُر على زجاج مكسر قلت: أين نحن؟ هذا ليس طريق المدرسة.. لماذا لم تدخل الشارع الفرعي إلى اليمين؟!
صار يكثر من التفاته نحوي دون أن يبدو عليه أنه يفهم كلمة مما أقول، رحت أزعق بأعلى صوتي: (يا غبي)! هذا ليس طريق المدرسة، أدخلتنا إلى الطريق السريع، ما الذي سيعيدنا ثانية؟! سوف نحتاج إلى عشر دقائق لنصل إلى المخرج!!
هل أبكي؟! لحظتها كانت كل الدموع لن تكفي لتخلصني من إحساسي بالقهر والغيظ، كل المشاعر تهافتت عليَّ كشلال يهدر غضباً.. كنت أود لو أشعل فيه حريقاً هائلاً وهو في مكانه خلف المقود.. لو أضربه ضرباً مبرحاً حتى يستحيل عليه تحريك رقبته نحو أي شي مرة ثانية.. وأخذت أفكر بالمديرة.. وتراءت أمامي ملامح وجهها الجامدة واللون الأحمر كالدم يسيل تحت اسمي!!
نفثت الهواء مخنوقاً خلف غطاء وجهي الشاحب الذي استحال الى ورقة شجرة يابسة، وأشد ما أذهلني ردة فعله الباردة تجاه المأزق الذي أوقعني فيه، فما زالت أصابع يده الغليظة تحرك المؤشر في وجهة المذياع يميناً ويساراً بحثاً عن صوت أجنبي، يتكلم بلغة يفهمها بينما لغتي تتشتت في دائرة فزعها وتتناثر حول رأسه الفارغ!!
- ها هو المخرج.. ادخل معه.
لم يفهم.. صرخت فيه.. وأخذت أضرب في مسند المقعد الذي يرتكز عليه كغبي واثق من نفسه..
- بسرعة .. هنا.. ادر المقود.
ولولا حزام الأمان الذي حبسني خلفه لنهضت من مكاني وأدرت المقود ناحية اليمين حيث المخرج الذي كان بحق مخرجاً لورطتي الكبيرة، ولو لم يدخل معه لكنا الآن نتجوَّل على غير هدى في ضواحي الرياض كلها قبل أن أصل إلى مدرستي!!
تذكرت الدراسة التي أثبتت نتائجها أن معظم حوادث السيارات سببها المرأة التي تقود السيارة من المقعد الخلفي وكنت وقتها قد تساءلت بدهشة، لماذا يسمح لهذا السائق الأجنبي بذلك؟!
الآن فقط عرفت السبب (لأنه غبي لا يفقه شيئاً).
أمام بوابة المدرسة وقفت السيارة تخلصت من حزام الأمان وكنت أرتجف من مغامرة هذا الصباح المريعة.. طالعني وجه المديرة خلف المكتب البني الصقيل.. وأمامها يسترخي دفتر الحضور الكبير بهيبته وشموخه المتعالي.. رأيت عينيها تتسلقان الساعة الجدارية.. كان الوقت يركض ضاحكاً مني إلى الثامنة إلا ربعاً.
طبعاً لن أحلم بالتوقيع في دفتر حضور المثاليات من المعلمات المحتفظات بأوقاتهن المرتبة.. وضعت تحت عيني دفتراً صغيراً خاصاً باللواتي يحضرن متأخرات بخجل وحنق بالغين.. كتبت اسمي في أعلى صفحته الخالية!
على الكرسي.. خلف مكتبي.. أرحت جسدي المنهك، وراحت ذاكرتي تستعرض في كثير من الدهشة أحداث هذا الصباح المشاغب.. وقد غمرني إحساس بالذهول، كيف كنت أصرخ بالسائق عالياً، وألوِّح بيدي ناحية اليمين وناحية الشمال كمجنونة.. وكيف كنت أضرب المقعد بغيظ حتى اتسعت عيناه بالفزع مخافة أن تأتي إحدى الضربات على رأسه.
أنا التي اتسمت شخصيتي بالهدوء والاتزان كيف خرجت من داخلي امرأة أخرى لا أعرفها.. ومن أنا بالضبط؟
|