كان قد مضى على عودتي إلى الرياض من أمريكا شهران تقريباً، أمضَيْتُ شطراً منهما في جولاتٍ (مكُوكية) عبْر أكثر من اتجاه، ولكن لغاية واحدة، هي البحثُ عن (وسيلة) مشروعة أحرِّر بها إرادتي من (فخّ) الوظيفة الحكومية التي ساقتني إليها ظُروفٌ لم آمرْ بها ولم تسُغْني، وألفيْتُ نفسي مكبَّلاً بأكثر من قيْدٍ أكْره أن أستسْلم له أو أتمرّد عليه.
* فمعالي الشيخ حسن المشاري، وزير الزراعة والمياه آنئذٍ، شرّفني بالاختيار للعمل معه ترْجيحاً لظنّه النبيل بي وبِمنْ زكّاني عنده بالقول الجميل، وكنتُ بلا شكّ، أسيراً لذلك الظن الكريم.
* ومعهد الإدارة، ممثلاً بمديره القدير، معالي الصديق فهد الدغيثر، آثر البقاءَ خارج (سياق الجدل) بيني وبين (وزارة الزراعة والمياه)، احتراماً وتقديراً لمعالي وزيرها، من جهة، ومنْعاً لنشوء المزيدِ من الإحراجِ لي، من جهة أخرى.
* أما الأصدقاء الكرام، خالد القصيبي وصالح المساعد وعبدالعزيز العوهلي، فإنهم لم يدّخروا جُهْداً بذلاً للشَّفاعة الحسنة باسمي، وسَعْياً حميداً منهم ل(فك اشتباك) الثقة بيني وبين وظيفة (وزارة الزراعة والمياه).
* وأخيراً، وليس آخراً، يأتي دور سيدي الوالد- طيّب الله ثراه-، الذي أثْراني بنُصحه ومتابعته، منذُ البداية حتى النهاية وصُولا إلى المُراد.
**
* أفقْتُ ذات صباح وسط أطْيافٍ من القلق والتّفاؤل تعْمُر خاطري، ورغم أنني قد عَقدتُ العزم قبل المبيت على خَوْض (مبادرة جديدة) لم أُفْصحْ عنها لأحد، فقد رأيت أن أفاتحَ بها سيدي الوالد، اسْتهْداءً برأيه، كما فعلت بادئ الأمر، فذهبتُ إليه- رحمه الله- في مجلسِه مشيّعاً بابتسامةٍ عريضةٍ لم أعْهدها منذ زمن، وبعد أن ألقيتُ عليه تحيةَ الصَّباح وقبلتُ يدَه الكريمةً، بادرني بالسؤال: خيراً إنْ شاء الله.. ما وراء هذه الابتسامة؟ هل وجَدْتَ لضيقك مخرجاً؟ فقلت له على الفور: (نعم يا سيدي، إنّ مع العُسْر يُسْراً، وعسى أن يكون فيما سأقول وأفعل اليوم خير) فقال- رحمه الله- وقد زادتْهُ كلماتي تحفّزاً لسماع المزيد: (هاتِ ما عندك يا عبدالرحمن وأوْجزْ)!
**
قلت له: (سأذهبُ بإذن الله هذا اليوم، بعد مباركتك يا سيدي إلى معالي (وزير المعارف) الشيخ حسن آل الشيخ، - رحمه الله-، وأُبلغُه أنني قد عدلتُ عن فكرة الوظيفة في أيِّ قطاع حكومي، وأنني أرْجُوه أن يُعيد ابْتعاثي إلى أمريكا لاسْتئنافِ الدراسة العليا، وبعد عودتي منها، يكتبُ الله ما يشاء، وبذلك أفكُّ أسْرَ الحرج الذي حاصرني من كلّ صوب، وجعلني مثل ريشةٍ تعبثُ بها الريحُ)!
**
* صَمَتَ سيدي الوالد برهةً قبل أن يبتسمَ ثم قال: هذه فكرة موفَّقة، إذا لم يكن لها بديل! فقلت: يا سيدي.. البديلُ لها أنْ أظلَّ (أسبح) زمناً طويلاً ضد رغبتي وطموحي، والأمور مسيّرة في كل الأحوال بإرادة الله وتوفيقه، ولا أظنّ أن أيا من صاحبيْ المعالي (الحسنيْن) الكريميْن آل الشيخ والمشاري، سيَعْترضُ على هذه الفكرة، بل أرى فيها مخرجاً من (الحرج) للجميع!
**
* ذهبت إلى مكتب معالي الشيخ حسن آل الشيخ- طيّب الله ثراه-، وقد أعْدَدتُ في خاطري (خطبة) موجزة أطرحُ من خلالها (مبادرة الحل)، دلفتُ إلى مكتب معاليه بخاطر مشْحون بالقلقِ والرجاء، ورحّبَ بي مديرُ مكتبه الأستاذ عبدالرحمن الحمدان، وقال: إنّ معاليه مشْغولٌ اليوم، لكنني سأسْعى لتمكينك من لقائِه ولو لبِضْع دقائق، ثم ذَهَب إلى معالي الوزير في المكتب المجاور، وعاد بعد لحظات يدعُوني للدُّخول، فتوجَّهتُ إلى مكتب معاليه وأنا لا أكَادُ أصدق ما حَدَث، وزادني تفاؤُلاً وأملاً أنّ معاليه- رحمه الله- استقبلني بنُبله المعروف، وعباراته الحانية، فبسطتُ له الأمرَ تفْصيلاً، ورجوْتُه أن (يُفرج) عني بالابتعاث مجدَّداً، مشيراً إلى أن لديّ قبولاً من جامعتي، وخطابَ تزكيةٍ من الملحق التعليمي في أمريكا، المربِّي القدير عبدالعزيز المنقور، وأن تحصيلي الأكاديمي المتميز في مرحلة (البكالوريوس) يُؤهلني لذلك.
**
* لم يستغرقْ اللقاءُ زمناً طويلاً، قبل أن يُبلغَني معالي الشيخ حسن آل الشيخ -رحمه الله-، موافقته غير المشْروطة على طلبي، بعد أن اطّلع على ما لدي من وثائق مؤيّدةٍ للطلب، ووعدَني بالحديث فوراً إلى معالي الشيخ حسن المشاري، (وزير الزراعة والمياه)، ل(فك الارتباط) الرسمي والأدبي مع وزارته، كيْ أتمكّن من العودة إلى أمريكا.. ومضَتْ أيام قلائل قبل أن أستقبل بفرحٍ بالغ نبأ مزدوجاً: (العتق من الوظيفة) وإعادة ابتعاثي إلى أمريكا للدراسات العليا! وحمدتُ الله أنْ كَتَب لي هذه النهايةَ السعيدة، دون أن أفْقدَ احترامَ وتقدير أيِّ من الأطراف المعنية بالموضُوع!
**
* عدت إلى أمريكا، واستأْنفتُ الدراسةَ العليا، وأنْهيتُها بإجازةِ (الماجستير) بتفوّق في حقل الإدارة، وقرّرتُ تأجيلَ مشْوار (الدكتوراه) حتى وقت لاحق، وقد عدت بعد ذلك إلى الوطن واتجهتُ مباشرةً إلى معهد الإدارة العامة، لأنالَ شرفَ التعيين به (خبيراً للإدارة) ومحاضراً، وباحثاً، ثم كُلِّفتُ بعد نحو سنتين من العمل في المعهد بأمانة اللجنة العليا للإصلاح الإداري إلى جانب مهامي الأخْرى به، وقد أمضَيْتُ خمس سنواتٍ في معهد الإدارة، هي من أجمل مشاوير عمري، مِهنياً وأكاديمياً وعملياً، ويبدو أنّ كثافة العمل بالمعهد عبر أكثر من جهة، داخل المعهد وخارجه، وارتباطي الأسَري أمورٌ (ألهتني) عن التفكير في إكمال مشوار الدكتوراه، فصَار ذلك الطموحُ أقلَّ أولويةٍ عمّا كان عليه بادئ الأمر! والحمد لله من قبل ومن بعد..
|