تتضح سنة الله في اختلاف القدرات والأفهام مع تفاعل الناس جماعاتٍ وأفرادا سواء أكان اختلاف تنوع أو اختلاف تضاد.. وسواء زاد حجم هذا التفاعل فصار على مستوى الدول والشعوب والثقافات أو صغر وتحجم إلى درجات الأسرة والأفراد.. ومع كل حالة وصورة من صور التوافق أو التغاير والخلاف تتعمق الحاجة للإعراب عن مكنونات الآراء وحدود الاتجاهات وطبيعة المناهج وعرضها أمام الآخرين، وبمقدار نضوج الطرح وتجريبات الممارسة يحصل الرقي بمعايير العلاقة، وتطبيقاتها السوية، وينبلج الغبار عن جوهر الحوار كقيمة حضارية مكينة.
والحوار قبل ذلك قيمة شرعية ورد معناه في القرآن بصيغ وتعبيرات متعددة كقوله تعالى:{قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا}.. (37) سورة الكهف.
واستخدم القرآن تعبير المحاورة والمجادلة في أكثر من ثلاثين آية وموضعاً؛ ليدلل على أن للحوار صوره المتعددة، ومن أشهر الآيات في ذلك قوله تعالى:{ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}.. (125) سورة النحل.
لقد كانت الدعوات إلى إقامة الحوارات الوطنية - وإن تأخرت - إحدى التطبيقات التي عززتها قوة الحاجة إلى أسلوب الحوار كسياسة شرعية تنطلق من معين الثوابت الشرعية وتمليها الظروف المحيطة.
نحن والآخر
أشرت في المقال السابق إلى مدى التذبذب الذي ينشأ مع إطلاق المصطلحات الجديدة على عواهنها، كما حصل في اللقاء الوطني الخامس للحوار الفكري والذي تم تحديد هدفه العام في عنوان رئيس قررته الأمانة العامة لمركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني هو: (نحن والآخر: رؤية وطنية للتعامل مع الثقافات الأخرى).
وعنوان دسم كهذا يحتوي مضمونه على فريقين تتجاذبهما تعاملات متبادلة ومتداخلة، تتطلب لدى الفريق (نحن) أن يجتمع ليقرر أوجه تعامله مع الفريق (الآخر) وحدوده وصوره وفق رؤية موحدة ومشتركة.
إن تكوين رؤية ثاقبة تتصف بالشمول والتناسب مع موضوع مهم كهذا يجب أن يتأسس على بناءات وأسس راسخة فكرياً وشرعياً وواقعياً.
وعند القراءة المتأنية لمفردات الرؤية التي انبثقت عن اللقاء الوطني الخامس للحوار الفكري نجد أنها حاولت استيعاب المقررات الجامعة لها لتبرز التأصيل الشرعي، والاتساع الأفقي في جوانب الحياة كلها - وسبق أن أوضحت معالمها في مقالي السابق.
كما تم تحديد منطلقات هذه الرؤية ب:المنطلقات الشرعية، والإنسانية، والوطنية، وهذه بلا شك (منطلقات) تنطلق شرعياً من كوننا (مسلمين)، ووطنياً (سعوديين) وإنسانياً من كوننا (نعيش فوق هذه الأرض المعمورة ببني الإنسان).
وبذلك اندرجت تحت هذه المنطلقات الثوابت العقدية والشرعية والوطنية والإنسانية، وكلها لا يجوز الحيدة عنها أو تجاهلها، وهذا بلا شك منطق وعي حددته هذه الرؤية.
وكان من مسببات وضوح الرؤية وعدم غموضها - وهذه إيجابية في حد ذاتها - أن تحدثت الرؤية عن التعامل مع الآخر وعددت أنواعاً لهذا التعامل كالتعامل الشرعي، والتعامل الثقافي، والتعامل السياسي، والتعامل التجاري.. وغير ذلك مما يكون بمجموع صوره (منهجية تعامل) ذات غطاء واسع تنحو للتمييز وتتسم بسلامة البناء؛ كونها بُنيت على المنطلقات الأساسية التي حددتها الرؤية في البدء.. ويؤكد بمجموع صوره أيضاً على شمولية الرؤية لجميع أنواع العلاقات والتعامل مع الآخر.
ويمكن التنصيص بعد هذا الإيراد على جملة من الاستنتاجات والنقاط الجذرية التي تتعلق بالرؤية كمشروع حضاري ومنتج وطني:
- وحدة المعتمد: الاعتماد على الإسلام، وهو مبدأ الدولة وذلك في العلاقة مع الآخر.
- اهتمامها بتأصيل البناء الثقافي
- العناية بشؤون الأقليات المسلمة في داخل البلاد وخارجها
- الاستفادة من تجارب الآخرين
- الدعوة للتعامل بالحسنى كما قرر الإسلام
- إبراز قضية المسلمين الكبرى قضية فلسطين والقدس
- احترام العقود والمواثيق
ومع أهمية الحوار بصورته الحالية إلا أنني أسجل في خاتمة هذا المقال بعض الوقفات:
1- تُشكر رئاسة الحوار والأمانة العامة على جديتها وحياديتها.
2- نتمنى أن يرقى المستوى في التحاور لمبادئ وفنون الحوار المنهجي والتي منها: عدم الخروج عن الموضوع وترك التجاوزات والجنوح في عدد من التعليقات الجانبية التي ركزت على النقد الذاتي وهو خارج الموضوع بحيث يتم إبراز الحلول بموضوعية.
3- أتمنى من التغطيات الصحفية والتحليلات الإعلامية لمثل هذه اللقاءات أن تكون في مستوى الحدث من عدم الأحادية في الطرح والوصف كما وقع من بعض المراسلين.
وبعد: فمهما قيل عن تجربة الحوار ومسيرته الوطنية تبقى الحقيقة التي لا مرية فيها: أن الحوار بمختلف صوره يعطي الفرصة لتطوير الأدوات الحالية واستيعاب أدوات جديدة تمكننا من التصدي للمزيد من الإشكاليات والتحديات التي يزخر بها عالم اليوم.
وأخيراً فإن هذه النتائج التي توصل إليها المتحاورون تتضمن دعوة (الآخر) أن يجتمع بدوره ليبرز رؤيته، وأن يحدد معالمها وأطرها، فقد سمع واطلع، والدور منه منتظر.. والله الموفق.
|