كنّا صغاراً نسمع البيانات الصادرة من الداخلية يوم الجمعة التي تُذاع غالباً في آخر نشرة الأخبار المسائية، وكانت هذه البيانات إعلاناً عن تنفيذ أحكام القصاص والقتل في حق بعض المجرمين والمارقين، وكانت لغة البيان تنطوي على مفردات كان لها وقعها المرعب الذي ما زلتُ أتلمّسه داخل نفسي الصغيرة المذعورة من هؤلاء المجرمين والمتهيبة من سلطة القانون الذي يلاحق ويقبض ويقتص وينفذ.
(وسنضرب بيدٍ من حديد).. كانت هذه الجملة مرعبة إلى الحدّ الذي كنت أتخيل يد الشرطي ورجل الأمن كما لو أنها مرزبة تهوي فتكسر وتقصم.. (كل مَن تسوّل له نفسه العبث). أما هذه الجملة فممعنةٌ في التحدي وإعلان المواجهة لكل من يحاكي نفسه ولكل مَن تزين له نفسه.. ولكل من يستسلم لهواه ورغبته.. ولكل من يجعل نفسه قاضياً.. ولكل من يأخذ حقه بيده.. ولكل من ينسى أنه في دولة القانون.
كنت (أنسدح) في فراشي وفرائصي (الغضة) ترتعد خوفاً وهلعاً من حجم الجريمة عندما أسمع توصيفها وضحاياها وما نتج عنها، وكنت أستيقظ للمدرسة صباح السبت وأرى شمس الأمن وهي تتغلغل في ضلوعي والطمأنينة تخترق أوردتي.
تذكّرت كل ذلك وأنا أستمع إلى بيان الداخلية يعلن عن الجريمة المرتكبة بحق عدد من (الأوادم) الأبرياء بعيداً عن عقيدتهم وجنسيتهم، فهم مع ذلك (أوادم)، لكن (الجهل) و(الحقد) و(غياب) بيانات (الجمعة) جرّ إلى ذلك.
ستجتهد التحليلات والتخمينات والتحريات في السبب، وستؤول إلى نتيجة واحدة، هي أن منظمة (القاعدة) عادت لتنشط من جديد!!.
إننا بهكذا نتائج لَنعطي (القاعدة) الخامدة والنائمة والمشتتة أكبر كثيراً من حجمها ودورها.. هل وصلت القاعدة بنفوذها إلى هذا الحد؟!
لا أظن..
فهي أضعف من ذلك كلّه..
.. هل تغلغلت (القاعدة) في تشكيل الرؤى والقناعات عند الناس إلى هذا المدى.. أيضاً لا أظن.
* فمن هو المجرم إذنْ؟
* مَن الذي نفّذ العملية الإرهابية بحق الفرنسيين العابرين في طريق تبوك - المدينة المنورة.. إنها منظمة (الجهل) التي (تعشعش) في العقول..
إنه الجهل الذي يربط الإسلام بالجنسية والشكل..
وهو الجهل الذي يظنّ أن كل ما هو غير عربي أو كل غربي واقع لا محالة تحت طائلة الكفر، والموت أولى به.
إنه الجهل الذي يحاكم الإنسان وفق لباسه؛ فهو مشبوه ما دام أشقر ويلبس بنطلوناً، وهو (من الجماعة) ما دام يعتمر الثوب والعقال والكوفية.
.. إنها منظمة (الجهل) التي تستبيح (الدم) البشري المكرّم عند الله بغض النظر عن الهوية.
.. إنها منظمة الجهل والمكابرة التي لا تنصاع لفتاوى صفوة العلماء وكبارهم.. وهو الجهل الذي يفتي لنفسه ويبيح لها ما لا تبيحه النصوص القرآنية والنبوية.
سبب الجريمة هو هذا الجهل الذي سمحنا له بالتفشّي والانتشار في الساحات والمواقع الإلكترونية.
سبب الجريمة هو هذه الرحمة والأبوة التي تُقابَل بهذا العقوق.
في ظنّي أن العاقّ جدير بالاجتثاث، وأن العضو الفاسد جدير بالقطع والبتر حتى لا يتوسع وينتشر أذاه وضرره.
ليتنا نستمع لبيانات الجمعة بحق هؤلاء.. ليتنا ننزع القماش عن اليد الحديدية ونضرب بها كل مَن سوّلت له نفسه إشاعة (الإرهاب) وشريعة (الغاب)، ولكل مَن تولّى كبره وعاث فساداً في هذه الأرض الطيبة.
اسحقوهم واقتلوهم وعلّقوهم في الميادين ليعتبر كلّ جاهل، ويرتدع كلّ (متوهّق)، ويعقل كل متعاطف، ويفرّ كل جبان.