التعاطي مع مختلف القضايا ومواضع الجدل ينبغي أن يكون مبنياً على أسس متينة من التأصيل العلمي والمنطقي بعيدا عن العاطفة والخوف والارتياب الكامل من التعامل مع معطيات العصر وعدم توظيف التقليدية كمبرر دائم للرفض والاستتار خلفها لنبذ كل ما يمكن أن يكون مفيداً وعملياً من أدوات حديثة متنوعة المشارب والاستخدامات حتى وإن كانت هذه الأدوات قادمة من خارج السياق الثقافي والاجتماعي الذي يستقبل مثل هذه الأدوات. من الطبيعي ولا شك أن يكون التوجس والوجل صفة تلازم الثقافات والسياقات الاجتماعية المحافظة- ولا عيب في ذلك- غير أن الرفض المطلق والتمنع الكامل عن التعامل مع كل ما هو خارجي من منطلق الخوف والقبوع خلف السياج الكامل العازل لأي احتكاك مع ما هو خارجي والمنع بهدف المنع دون تبرير منطقي يقنع الجميع ما هو إلا نوع من العجز وفقدان الثقة خصوصا في وقتنا الحاضر حيث تأتي قيم الإبداع والتفكير المنطقي وغرس مفهوم الحرية المنضبطة في النفوس وزرع الثقة الواعية في العقول وتجنب تحويل الأفراد إلى مجرد أوعية مستقبلة دون إدراك من هؤلاء لما يُصب في عقولهم، تأتي كل هذه القيم ضمن قائمة متطلبات النجاح في عالم اليوم الذي يتطلب منا ضمن ما يتطلب قدرة أكبر على الموازنة وانفتاح الذهن فيما يخص قراراتنا المتعلقة بمسير حياتنا الحالي ونظرتنا المستقبلية.
والساحة الثقافية والفكرية والتربوية والتعليمية تشهد هذه الأيام ما يمكن وصفه بالنقاش الذي يصل إلى درجة الجدل فيما يخص صراعا يفترض البعض وجوده بين اللغتين العربية والإنجليزية على الهيمنة على الساحة التربوية-التعليمية والاجتماعية وهو ما ينسحب بالتالي على الهوية الثقافية. الحديث عن هيمنة لغة أخرى غير اللغة العربية على السياق التربوي-التعليمي ووجوب سد أي مسلك أو درب يؤدي إلى حدوث مثل هذه الاحتمالية -التي أؤمن باستحالة حدوثها من منطلقات تاريخية وعلمية ومنطقية- هذا الحديث ينطلق في جزء منه من خوف على الهوية والعمق التفافي لأفراد المجتمع واضمحلالها في حال ظهرت على الميدان الاجتماعي والتربوي- التعليمي لغة أخرى. ومن أبرز الأمثلة على مثل هذا النقاش الطرحُ المميز والمتكامل لعلم ثقافي ولغوي ومعرفي هو أستاذنا جميعاً د. أحمد الضبيب في مقال له مكون من جزأين بهذه الجريدة احتوى على الكثير من المعلومات الغنية بالوقائع والتنوع الجغرافي واللغوي ودعا إلى ضرورة التمهل والتفكير الملي في أي خطوة مرتبطة باللغة من شأنها إحداث تغيير أياً كان التغيير في سياسات التعليم وتطبيقاته وممارساته التدريسية والتعلّمية وعدم التسرع في تبني قرارات دون أن تكون متسقة مع سياسات إستراتيجية وتخطيط شمولي أعم تقع مسؤوليته على كاهل وزارة التربية والتعليم التي تمثل واحدة من السلطات التخطيطية والتنفيذية، وأنا هنا لستُ في مقام الرفض الكامل لما أتحفنا به د. أحمد من تحليل متكامل وشامل بل إنني أتفق معه في كثير من نقاطه وأؤكد عليها خصوصاً فيما يتعلق بالهوية الثقافية لأي أمة وأهمية عدم التسرع في استصدار وتنفيذ قرارات فردية الطابع دون الاستناد إلى دراسات علمية موثقة ترسم نتائجها الأهداف الشاملة التي تمثل بدورها نقطة البداية لأية تطبيقات تربوية- تعليمية. غير أن هناك تعميمات معينة حملتها ثنايا المقال بجزأيه المتتابعين لم أكن قادراً على أن أتقبلها كما هي فقد أورد كاتبنا الكريم أمثلة لدول معينة (إفريقية) تم استعمارها وكيف أن اللغة الأجنبية (لغة المستعمر) إضافة إلى مسخ اللغة القومية (الوطنية) مقترن بتخلف مثل هذه الدول وشدة فقرها وهو تعميم أرى أنه يُغفل عوامل أخرى مرتبطة بالاقتصاد ونسبة الأمية والوضع السياسي وغيرها من عوامل - أترك للمتخصصين غيري الإسهاب بخصوصها - كانت هي من ضمن الأسباب الرئيسة في الوضع المزري لمثل هذه الدول وتخلفها الملحوظ. وهناك أيضا الربط الكامل فيما بين تعلم شخص لغة أجنبية (ثانية) والتشبع الكامل بثقافة تلك اللغة (بحيث لا يستطيع فكاكاً من هذه الثقافة في مستقبل حياته) وهو تعميم قد تختلف وتتنوع درجة حدوثه باختلاف السياقات والمجتمعات ولنا في آلاف المُبتعثين السعوديين الذين أتقنوا اللغة الإنجليزية ولم ينسلخوا البتة من ثقافتهم ما ينفي هذا الاحتمال بل إن هؤلاء المُبتعثين ازدادوا تمسكاً بها نتيجة صلابة الأساس المنهجي لثقافتهم وهو ما يعني أن ما يحدث في سياق اجتماعي جغرافي معين له خصائصه المميزة له لا يعني ضرورة حدوثه في سياق آخر يختلف في خصائصه التي تميزه عن غيره من السياقات.
كما أن إرجاع الفضل في التقدم وعلو الكعب والتطور وإيعازه فقط إلى استخدام اللغة القومية دون أخذ العوامل الأخرى والنظر إلى الصورة بشكل شامل وعام يمكن الرد عليه بالتجربة الماليزية الناجحة التي تضمنت في جزء منها توظيف اللغة الإنجليزية بشكل كبير وكذلك التجربة الإسرائيلية التي تنتشر مقالات علمائهم المتخصصين في مختلف المجالات وشتى الضروب منشورة باللغة الإنجليزية في مختلف المجلات العلمية العالمية المحكمة حيث يتم تدريس لغة الإنجليزية هناك كلغة ثانية بشكل كبير. ولعل واحدة من أبرز نقاط مقال الدكتور أحمد الإشارة إلى تجارب (ثنائية اللغة) في بلدان عالمية مختلفة وهو ما يحفزني على القول بأنه من المهم استيعاب وجود فرق فيما بين مفهومين اثنين مهمين حتى تكتمل الصورة ويزول أي لبس فيما يخص دعوتي التي ستأتي لاحقاً لتبني تعليم لغة إنجليزية أكثر فاعلية: مفهوم (ثنائية اللغة) ومفهوم (التعليم القائم على ثنائية اللغة)، فثنائية اللغة مفهوم يشوبه كثير من اللبس وبالتالي يُفسر بطريقة خاطئة، إذ لا يُقصد بثنائية اللغة أن يكون الشخص قادرا على الدوام على التحدث بكلتا اللغتين - الأم واللغة الثانية - بنفس المقدار من القدرة والكفاية والفصاحة ذلك أن ثنائية اللغة تعني في مفهومها الأعم أن يكون الشخص قادرا على التواصل الفعال بكلتا اللغتين متى ما وُضع هذا الشخص في مواقف تحتاج إلى استخدام أي من اللغتين. هذه الثنائية اللغوية تختلف من شخص إلى آخر فيما يتعلق بدرجة إتقان كل لغة من اللغتين، فهناك من يستطيع التحدث بكلتا اللغتين بنفس الدرجة من الطلاقة وهناك من هو أفصح في لغة من اللغة الأخرى (في الغالب الأعم يكون المتحدث أكثر فصاحة وطلاقة في لغته الأم).
ومن أهم أسباب الاختلاف في مستويات الثنائية اللغوية الوسيلة أو الطريقة التي تم من خلالها اكتساب اللغتين أو تعلم اللغة الثانية. إذ إن ثنائية اللغة تأتي من خلال وسيلتين اثنتين إحداهما تتصف بالتزامن والحدوث في وقت واحد وذلك من خلال اكتساب لغتين مختلفتين في وقت واحد وبشكل متزامن وغالبا ما يحدث ذلك أثناء سنوات الطفولة المبكرة وهو ما يؤدي في الغالب إلى أن يكون الشخص قادرا على التحدث بكلتا اللغتين بمستوى متقارب إن لم يكن متماثلا من الفصاحة. والأمثلة على مثل هذا الأسلوب تتجسد في المهاجرين الذين يرغبون في اكتساب أولادهم اللغة السائدة في البلد الذي هاجروا إليه مع تعريض أطفالهم للغة الوالدين الأم في المنزل كي يكتسبوا هذه اللغة التي تمثل لغة الوالدين الأم وبالتالي عدم اختفائه. وهذا النوع من ثنائية اللغة يتبدى في أمثلة المهاجرين إلى الولايات المتحدة الأمريكية ممن لا يتكلمون اللغة الإنجليزية ممن يرغبون في أن يتكلم أطفالهم كلتا اللغتين وهو ما أدى إلى وجود التعليم القائم على ثنائية اللغة خصوصا في ولايات الجنوب من مثل كاليفورنيا وتكساس وفلوريدا. والأمر المثير هو أن مثل هذا التعليم رغم كثرة مناصريه جُوبه بدعوات مناهضة تدعو إلى إلغاء هذا التعليم والمناداة باتخاذ اللغة الإنجليزية كلغة رسمية وأولى بشكل يؤدي إلى إلغاء ما عداها من اللغات.
أما الطريقة الثانية فتتمثل في تعلم لغة ثانية بعد مرور وقت على اكتساب اللغة الأم أي أن مرحلة تعلم اللغة الثانية تلي مرحلة اكتساب اللغة الأم. وهنا تكتسب المصطلحات أهميتها، فاللغة الأم يتم (اكتسابها) فيما اللغة الثانية يتم تعلمها. وهذا النوع من الثنائية أدى إلى قيام العديد من المختصين بكثير من الدراسات فيما يخص ارتباط سهولة تعلم لغة ثانية مع التبكير في تدريسها وازدياد صعوبتها كلما تقدم الشخص في العمر وهو ما أدى إلى بروز مفهوم (الفترة الحرجة) الذي ينص على أنه من الأسهل تعلم لغة ثانية في سن الطفولة منه بعد فترة البلوغ.
أما التعليم القائم على ثنائية اللغة فيُقصد به في أبسط صوره تدريس جميع المواد في المدارس من خلال لغتين أولاهما لغة البلد الأولى أو القومية أو الأكثر شيوعا والتي تستخدمها الغالبية من السكان وثانيتهما اللغة الأم للأقلية المهاجرة. وتتعدد أنواع (التعليم القائم على ثنائية اللغة بحسب حجم ومدى استخدام كل لغة أثناء مختلف سنوات التعليم. فهناك التعليم الانتقالي والتعليم ثنائي الاتجاه والتعليم الغمري. ويظل هذا النوع من التعليم تعليماً له جذوره العميقة في التاريخ التعليمي-التربوي الأمريكي والكندي.
تطبيق التعليم القائم على ثنائية اللغة في العديد من الدول -خصوصا المتقدمة منها- أدى إلى ظهور كم هائل من الدراسات المتعلقة بمختلف الآثار المترتبة عن ثنائية اللغة لدى الفرد والتي تخلص إلى أن عمق الأثر يعتمد على عوامل متعددة منها السن التي تم عندها اكتساب اللغتين أو تعلم إحداهما مكانة اللغتين في المجتمع والأسلوب الذي تم من خلاله الوصول إلى الثنائية اللغوية.
وعلى الرغم من أن نتائج الأبحاث التي تم إجراؤها في أمريكا الشمالية في الثلاثينيات حتى الخمسينيات من القرن الماضي كانت تميل إلى القول بوجود آثار سلبية لثنائية اللغة من مثل مستويات ذكاء أقل وقدرات أكاديمية ولغوية أقل فإن باحثين آخرين فيما بعد أوضحوا أن سبب مثل هذه الفوارق السلبية يكمن في أن تلك الدراسات أُجريت على طلبة كانت لغتهم الأم هي لغة الأقلية ممن لم يتكون لديهم بعد حد (عتبة) الكفاية اللغوية في لغتهم الأم قبل أن يتلقوا تعليمهم الأكاديمي في اللغة الثانية.
على الجانب الآخر فإن نتائج الأبحاث التي تم إجراؤها في الستينيات حتى الثمانينيات أشارت إلى وجود آثار إيجابية أكثر فيما يخص التفكير التفريقي والمرونة في التلاعب باللغة والتفكير العملي والتفريق فيما بين المعنى والصوت وتكوين المفاهيم والوعي ما بعد اللغوي.
من جانب عملي وذرائعي-نفعي وبناء على المعطيات التي كشفت عنها مستويات الكفاية العلمية واللغوية والعملية والتدريبية لنسبة كبيرة من مخرجات التعليم الجامعي والتعليم الفني والتدريب المهني والتي تدل على أن الافتقاد إلى إتقان اللغة الإنجليزية كان ولازال سبباً في عجز خريجي وخريجات قطاعي التعليم الجامعي والتعليم الفني والتدريب المهني عن مواكبة تطورات سوق العمل وحرمان هؤلاء بسبب مثل هذا الانغلاق اللغوي لدى البعض من الأوصياء -ممن يذكروننا بحقبة رفض تعليم الفتاة - من فرص ذهبية هم أولى بها بدلا من ذهابها إلى العمالة الأجنبية وبالتالي تسبب هذه العمالة في استنزاف اقتصادي وخسائر مالية ناهيك عن الآثار الاجتماعية والأخلاقية سلبية الطابع والتي كان في الإمكان تجنبها لو أننا كنا أكثر قدرة على التفكير بشكل منطقي متوازن بعيدا عن العاطفة، من هذا الجانب فإنني أدعو إلى ضرورة تمكين الطلاب من خريجي التعليم العام من أن يكونوا ثنائيي اللغة عبر تخطيط تعليمي يعطي حيزاً كافياً لتدريس اللغة الإنجليزية من السنة الدراسية الأولى في المرحلة الابتدائية وإعطاء هذه المادة أهميتها والتعامل معها منذ البداية كمادة أساسية.
لنكن منطقيين وعمليين أكثر فاللغة الإنجليزية اليوم مطلب أساس وهي لغة النجاح والتواصل العالمي في عصرنا هذا شئنا أم أبينا وما تخلص إليه مختلف الدراسات مع مرور الوقت هو أن الأطفال ثنائيي اللغة يمتلكون قدرة أكبر في مجال التجريد ويتمثل ذلك في مقدرتهم على التعامل مع المفاهيم الرياضية واستيعاب المجاز -الاستعارة- والرمزية في الخطاب وزيادة قدرتهم على التركيز وفوق ذلك كله فإن تعلم أكثر من لغة يسهم بشكل إيجابي في نمو الأطفال المعرفي وتقوية هوياتهم كمتعلمين وهو ما ينبغي أن يكون هدفاً أساسيا في التعليم ذلك أننا في حاجة إلى متعلمين حقيقيين لا مجرد متلقين سلبيين. هذا بالإضافة إلى أن تعلم اللغتين يسهم في تعميق مفهوم التنوع وبالتالي عدم تحجر الفكر وتقديره للأفكار والمفاهيم الأخرى ومراعاتها وعدم التقوقع في نطاق ضيق.
إنني أتفق عبر هذا المنبر مع الدكتور أحمد فيما يتعلق بضرورة مراعاة تنوع واختلاف التجارب العالمية الأخرى وكذلك تمايز كل تجربة عن الأخرى إضافة إلى أهمية تحديد الحيز الزمني والكمي لتدريس اللغة الإنجليزية ووضع صورة واضحة المعالم مستندة على تخطيط استراتيجي مدروس مبني على نتائج الدراسات المحلية التي ينبغي إجراؤها لتقويم آثار تطبيق تدريس اللغة الإنجليزية وألا يتحول الأمر إلى مجرد اجتهادات فردية الطابع بشكل قد يؤدي في النهاية إلى استمرار الهدر الاقتصادي والمعرفي والعلمي الحادث.
كما أنني أتفق مع طرح الدكتور محمد الحقباني الذي اقترح في مقال له بهذه الجريدة تأسيس مركز أبحاث يختص بثنائية اللغة يشرف عليه خبراء في هذا المجال بحيث يكون ذلك بداية مشروع بحثي وعلمي يأخذ بعين الاعتبار ظروف مجتمعنا وطبيعته وحاجات أفراده ومتعلميه ومتطلبات سوق العمل ليتسنى عبر ذلك كله تحديد الأهداف العامة وكذلك الخاصة بثنائية اللغة بشكل يوازن بين الهوية الثقافية والحاجات العملية.
abanom@hotmail.com