Al Jazirah NewsPaper Tuesday  14/06/2007 G Issue 12677
ورحل عاشق التاريخ
الخميس 28 جمادى الأول 1428   العدد  12677
الشيخ التويجري العقل والمنطق
عبد الله الزازان

قال لي ذات مرة وكنت قد ذهبت إلى زيارته في أحد فنادق واشنطن، وكان ذلك في شهر يونيو من عام 1985م:

(لعلي وقد جاوزت مرحلة الشباب والكهولة وأعيش الآن الشيخوخة قد تجاوزت بتجربة ناقصة كثيراً من المخاوف.

فالخوف لا يسبّبه رأي إنسان غير بعده عن نفسه وعن مراقبة هذه النفس؛ فهي التي توحشه أو تدخل الأمان على قلبه، فردود الفعل - أيّ فعل - فيما بين الإنسان وما هو خارج عن نفسه هو الذي يصوغ للإنسان سيره أو وقوفه على قارعة الطريق حائراً أو مشلول الحركة.

فسؤال الأخ الذي تطرحه الآن عليّ لا أبغي الجواب عليه من ألفاظ ملتاعة ومروعة أبداً، فالبداية التي أعجبت طارح السؤال أو النهاية التي تخيفه لا أحد يستطيع أن يقول: هذا كل ما عندي؛ فقد نضبت بئري ولم يعد فيه قطرة ماء لظامئ؛ لأن الإنسان - أيّ إنسان - لا نهاية لأعماقه ولا جدار سميك تقف عنده قدماه الذهنية، فيقول لها قفي، ولكن السير والرؤية في ذاتية الإنسان تختلف من إنسان وآخر، وهذه هي مشكلة المشكلات فيما بين الخريف والربيع في حياة الإنسان، وأكون سعيداً لو أن سيري لم يتكور في حلقة البداية التي خاف عليّ الأخ منها.

فالمتنبي في علو الزمن أو إنسان مثلي يعيش في القرن العشرين كانت أيامه الأولى في شبه عزلة في قلب الصحراء، قرية لا مدارس فيها ولا كتاب غير كتابنا العزيز، كل شيء محدود. قريتنا وصحراؤنا مقاييسنا لفجاج الأرض، مقاييس على قدر تصوراتنا، وهي تصورات لا تذهب إلى البعيد، فلا نعرف المقاييس الضوئية، ولا ندرك حقائق هذا الكون وبُعده اللامتناهي ونظامه البعيد ومجرّاته التي تسبح في الفضاء وفق قانون لا يملّ السير ولا يستريح.

هذه الصورة التي رغبت أن تراها عن إنسان مثلي وعن أبيك وأهلك وأجدادك عبر الأزمنة البعيدة هي ما يردنا في إيمان لا يتزعزع على قرآننا الكريم الذي وجهنا أعظم توجيه إلى أبعاد هذا الكون وإلى أن نعقل ونتفكر ونسيح في الأرض.

إشارات عظيمة غفلنا عنها طويلاً وفاجأتنا علوم هذه الحضارة بما آلمنا ولا أقول أذلنا أمام العالم، فالتداعي الكوني وتكور الشموس وإلى آخر ما جاء في كتابنا العزيز من وعد ووعيد تجاه هذه الحياة والمصير المحتوم.

هذه المقدمة لمدخل السؤال.. والجواب عليه سببها أني وأنا قارئ متتلمذ على حكمة أبي الطيب وفلسفته التي أكسبته إياها الحياة والناس وجدت نفسي حالة من الحاجة على التعبير عن أحاسيسي وعن صامت في أعماق النفس لم أجد له من يستنطقه غير أبي الطيب؛ فهو كاتب الرسائل، وهو ممليها، وليس لي دور فيها غير دور رجل اقتفى أثره في قلب الصحراء فعلق به صدى لصوت أبي الطيب الجهوري والفلسفي والناقد فرددته في هذه الرسائل صدى ولا غير).

كان ذلك القول الطويل لسؤال أبديته عرضاً من بين تراكم أسئلة ثقيلة أملاها كتابه الفريد (في أثر المتنبي.. بين اليمامة والدهناء). كان السؤال يصف الكتاب بالبداية المهمة ويبدي قلقاً من أن أيّ عمل آخر للشيخ بعد إبداعه في هذا الكتاب قد يعود به إلى البداية.

إن من أشد المسائل تعقيداً التي قد تفضي بك أحياناً إلى الجدل أن تصنّفك الثقافة في مرحلة ما ثم لا تستطيع أن تتحول عن هذا التصنيف، وبخاصة عندما تعيش المفارقة بين الإنتاج والمسؤولية اليومية، وتعيش المفارقة بين طبيعتين مختلفتين. وإذا كان الشيخ عبد العزيز بن عبد المحسن التويجري وزيراً ومفكراً فقد كان طه حسين وزيراً في وقت ما، وكان أندريه مالرو وزيراً للثقافة في حكومة ديجول، ولديولد سنجور كان رئيساً. والذي يجمع بين هؤلاء هو أنهم مؤلفون أو أدباء جلسوا في أعلى المناصب التنفيذية فعاشوا المفارقة بين الإنتاج والمسؤولية اليومية. كان الفكر المؤسس على التراث أحد المحددات الرئيسة في تجربة الشيخ عبد العزيز بن عبد المحسن التويجري، وأحد العوامل المهمة في صياغة واقع الشيخ. هذا الفكر ليس وليد الستينيات كما يظن كثيرون، بل هو علاقة قديمة تعود إلى الثلاثينيات.

فقد كان الشيخ يعتبر التراث الوسيلة الحضارية لنقل التجربة التاريخية، وكان يخالف كل الأفكار التي ترى في التراث رجعة إلى زمن قديم، بل يعتبر التراث مؤسَّساً على توجُّه مستقبلي يعني التأكيد على روح الأمة واستمرارية تاريخها، وإن كان في حالات كثيرة يراه وصل الحضارة بالزمن؛ إذ إنه لم يتوقف عند مجرد تلك الأفكار، بل إنه عبّر عنها في تظاهرة ثقافية، فكانت الجنادرية الحدث الفريد والإنجاز الباهر لصياغة وحدة حضارية ثقافية، وربما يمرّ المؤرخون اليوم على تلك الحركة مروراً عابراً في الوقت الذي يجب أن تحظى فيه بمزيد من الاهتمام؛ إذ إنها كانت البداية المهمة لحركة تغيير ثقافي شامل كان أحد آثارها العملية إدخال الثقافة كوسيلة للتحاور العلني.

ولا نظنّ أحداً لا يدرك الأهمية الكبرى لهذه التظاهرة الثقافية التي كانت فكرة الشيخ الذي أسّس حياته على الثقافة يحملها في داخله، ويأخذ منها تجاربه، ويقوم على أصالتها، ويستلهم وينطق باسمها. أصغى طويلاً، وتحدث قليلاً، وأطال إصغاءه، خصوصاً للكتاب العزيز الذي يشير إليه كثيراً، وأصغى إلى نفس أبي الطيب الواثبة.

كان الشيخ يتخذ الموضوعية ومواجهة الحقائق والتوازن الدقيق أحد المحاور المهمة التي تشكل في مجموعها صورته الحقيقية: علاقاته، توجّهه الفكري، الاعتراف بأهمية الآخر وكونه أساساً في المعادلات. كل هذه المرتكزات الموضوعية جعلت الشيخ نسيجاً ملتحماً لا يمكن أن ينظر إليه من خلال زاوية واحدة، فقد كان الفكر طابعاً للعلاقة بين الشيخ والمجتمع.

كان الشيخ يؤمن بالحوار، ويرى أن العالم أحوج ما يكون لأن يتمثل روح الحوار؛ لأن الحوار هو البديل العاقل للصراع، ولأن الحوار هو الوسيلة المثلى لتحقيق الأهداف في هذا العالم المتشابك. وفي هذا تأكيد على إيمان الشيخ الواعي بالحوار كوسيلة ليس فقط لتوضيح وجهات النظر وإنما كذلك للسعي الإيجابي لتأكيد الذات والعمل على بلورة الخيار الحضاري.

وليس ضرورياً أن تتطابق وجهات النظر، ولكن الضروري أن تتوفر المعرفة المتبادلة بضرورة السعي نحو تقريب وجهات النظر في عالم يسعى للوفاق لا للصراع واقتسام مناطق النفوذ.

من الصعب أن يلتقط القلم كل رؤى وتجارب وأفكار الشيخ عبد العزيز بن عبد المحسن التويجري، ولكن تلك الرؤى والأفكار تخضع لنسيج محكم متلازم ما بين العقل والمنطق، ولذلك فمنطق الشيخ يكشف لنا إلى أي حدّ تبدو الخيارات واضحة أمام عقله، تلك الأفكار والرؤى التي يؤمن بها ويؤسسها على إيمانه الديني التي تظهر في شكل مواقف، فحصافته وحسّه الحضاري وعبقريته السياسية جعلت منه رجلاً فذاً شديد التميُّز.

وهنا تظهر الحاجة إلى تأسيس مركز دراسات يُطلق عليه (مركز الشيخ عبد العزيز بن عبد المحسن التويجري للدراسات)، مع التركيز على القضايا والأفكار والموضوعات التي تناولها الشيخ في حياته. كما تظهر الحاجة إلى إقامة صناديق خاصة لرصد الجوائز التشجيعية للأعمال والبحوث العلمية المتميزة ومساندة المشروعات العلمية والثقافية.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد