الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وبعد..
فقد كثر الحديث والتساؤلات عن المسعى الجديد، وهل يجزئ السعي فيه فأقول - وبالله التوفيق -: لم يختلف العلماء في أن الواجب في السعي هو ما بين جبلي الصفا والمروة لقول الله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا} (158) سورة البقرة. ولكن وقع الخلاف بين العلماء المعاصرين في تحقيق مناط هذه المسألة - بعد التوسعة الجديدة - فمنهم من يرى أن حدود جبلي الصفا والمروة لا تتجاوز حدود المسعى الحالي (القديم) ومنهم من يرى أن حدود جبلي الصفا والمروة أوسع من ذلك، والعلماء والمؤرخون قاموا بجهد كبير في تحديد كثير من المواضع في المسجد الحرام وفي مكة عموماً تحديداً دقيقاً حتى أنهم كانوا يحددون بالأصابع، ولم أقف على تحديد لعرض جبلي الصفا والمروة، وربما أنه لم يخطر ببالهم احتياج الناس لتوسعة المسعى نظراً لقلة الناس فيما مضى، وقد ذكر الأزرقي في كتابه (أخبار مكة) 2- 119 أن عرض المسعى خمسة وثلاثون ذراعاً ونصف الذراع (أي سبعة عشر متراً و4 سنتيمترات) وذكر غيره تحديدات قريبة من هذا وهي إنما كان فيها تحديد لعرض المسعى في زمانهم وليس فيها تحديد لجبلي الصفا والمروة، فلا يصح الاحتجاج بها، قال مجاهد بن جبر: (هذا بطن المسيل الذي رمل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن الناس انتقصوا منه) رواه ابن أبي شيبة، والذي يظهر - والله أعلم - أن حدود جبلي الصفا والمروة أوسع بكثير من حدود المسعى الحالي (القديم) كما تشير إلى ذلك بعض أشعار العرب ومن ذلك قول الأعشى الشاعر المشهور المتوفى في السنة السادسة من الهجرة هاجياً عمير بن المنذر:
فما أنت من أهل الحجوم ولا الصفا
ولا لك حق الشرب من ماء زمزم
ديوان الأعشى ص 214
وهذا يدل على اتساع جبل الصفا وأنه موضع للسكن والاستقرار وليس هو الحجر الأملس بدليل أنه قابله بذكر الحجون وهو جبل متسع محل للسكنى.
ويقول مضاض بن عمرو بن الحارث:
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا
أنيس ولم يسمر بمكة سامر
(أخبار مكة 1-97)
ويقول قصي بن كلاب في قصيدة مشهورة:
أنا ابن العاصمين بني لؤي
بمكة مولدي وبها ربيت
ولي البطحاء قد علمت معد
ومروتها رضيت بها رضيت
(السيرة النبوية لابن هشام 1-135) أخبار مكة 1-107
والشاهد قوله (ومروتها رضيت بها رضيت) وهو يشير إلى اتساع المروة وأنها محل للغربة والملك والسكنى ولهذا أشار إلى رضاه بها.
وهذه الأشعار وغيرها مما هو مذكور في مكتب الشعر والأدب تدل على اتساع جبلي الصفا والمروة وأنه قد كان هناك من الناس من كان ساكناً على جبلي الصفا والمروة، وفي الوقت الحاضر شهد بذلك أكثر من عشرة شهود من كبار السن الذين عاصروا بعض معالمها قبل إزالتها.
والحاصل أن الأقرب في هذه المسألة هو أنه لا بأس بالسعي في المسعى الجديد وأن المسعى الجديد يحده الصفا والمروة فمن سعى فيه فقد سعى بين الصفا والمروة وأتى بهذا الركن - أو الواجب - المطلوب شرعاً عند أداء النسك والله أعلم.
*أمين عام الجمعية الفقهية السعودية والأستاذ المشارك في قسم الفقه بكلية الشريعة - جامعة الإمام