عندما يشاهد ويسمع المرء ما يدور في الفضائيات التلفزيونية - وخصوصاً العربية منها - من حوارات مختلفة سواء حوارات سياسية، أو ثقافية أو فنية أو اقتصادية... فهو بدون أدنى شك لن يحصل على أي فائدة فكرية من معظم هذه الحوارات، ويبدو أنها كالضحك على (الدقون)، الكل يضحك على الكل، وكل محاور يدَّعي وصل ليلى - العلم والدراية بموضوع النقاش -.. ناهيك عما قد يحدث في هذه الحوارات من صراخ ونواح وعويل وتشابك بالأيدي قد يصاحب باللكم.. ويبدو أن هذه الطريقة في الحوارات قديمة قِدم وجود الإنسان على سطح الأرض، وأنها مسألة متوارثة فيما بين الأجناس البشرية.. وقد سجل لنا التاريخ طريقة مماثلة في الحوارات كان يستخدمها بعض الفلاسفة في العصر اليوناني، فها هو الفيلسوف اليوناني سقراط المولود في حوالي سنة 470 ق.م.. والميت مسموماً سنة 399 ق.م.. له طريقة خاصة في إجراء الحوار مع من يريد أن يحاوره في موضوع معين، فهو يبدأ بأن يُصرِّح لمحاوره أنه لا يعرف شيئاً، وأنه يريد أن يتعلم ممن يحاوره (بعض مقدمي الحوارات في بعض الفضائيات العربية يريدون أن يتعلموا من المحاور وأن يتعلم المشاهد والمستمع أيضاً).. ويبدأ سقراط في فحص وتمحيص ما يقوله محاوره، ويكشف زيفه أو قصوره أو خطأه.. وكان يهدف من هذا أن يصل إلى تحديد دقيق للمفهومات والمعاني والماهيات، فعلى سبيل المثال، عندما يلتقي سقراط بمحاوره الذي يدَّعي معرفة معنى معين - مثل العدل، الظلم،... - ، وبعد أن يُدلي المحاور برأيه يجادله سقراط في صحة التعريف، ويمتد ويطول النقاش بينهما بحيث ينتهي كلاهما إلى أنهما معاً لا يعرفان المعنى الدقيق والتعريف الصحيح لموضوع الحوار.. (هذا مثل ما يحدث في حوارات بعض القنوات العربية فلا المحاوِر ولا المحاوَر، ولا المشاهد المستمع يعرفون شيئاً عن موضوع الحوار والنقاش)... ولما كان سقراط حين يبدأ الكلام يُصرِّح بأنه جاهل، ويريد أن يتعلم من محاوره، لكن مجرى الحوار يؤذن على العكس من ذلك.. وهو أن سقراط أعلم من محاوره - فقد كان أسلوبه هذا في الحوار يبدو للمحاوِر كما لو كان سقراط يريد أن يسخر منه بهذه الطريقة غير المباشرة.. وهذا هو ما عرف بالتهكم السقراطي.. (وعندنا نحن العرب التهكم الفضائي العربي).. لقد كان سقراط بهذا الحوار يكشف لمحاوِره عن جهل هذا الأخير على الرغم من أنه يدَّعي في بداية الأمر أنه من أهل الاختصاص والعلم بالموضوع الذي يدور حول الحوار.. ولما كان الناس يكرهون أن يُوصفوا بالجهل، أو أن يكشف لهم الآخرون جهلهم، فإن طريقة سقراط هذه أثارت عليه حنق الكثيرين وعداوتهم، وخصوصاً السوفسطائيين الذين يتكسَّبون من ادّعاء العلم والسياسيين - في عصر سقراط - لأنهم بطبعهم أدعياء في العلم وفي غير العلم.. (هذا ما ذكره عبد الرحمن بدوي في موسوعة الفلسفة).
الرياض: 11642 ص.ب: 87416