بسطت الدولة العثمانية سلطانها على معظم البلدان الإسلامية. ولكن الجزيرة العربية ظلت ممتنعة على الفتح العثماني بفضل الله ثم بفضل صحرائها التي هلكت فيها عطشاً الجيوش التي وجهها السلطان (سليمان) عام 1550م. وكما هو حال الدولة العثمانية الهرمة عندما تقوم نهضة تلقي عبء القضاء عليها على كاهل الولاة في الأقطار المجاورة لها لإضعافهم واستنزاف مواردهم ليسهل إخضاع الجميع. ففي العام 1798م وفي عهد الإمام عبدالعزيز بن محمد بن سعود بن محمد آل مقرن باني نهضة الدولة السعودية الأولى (1) أصدر الباب العالي للدولة العثمانية (السلطان محمود الثاني) إلى واليه في العراق (سليمان باشا) الأوامر لكي يسير ويهاجم الدولة السعودية الناشئة ويدمر عاصمتها (بلد الدرعية) ويهدم مبانيها ويبيد ويهجر سكانها، وامتثل (سليمان) لأوامر سلطانه. ففي العام 1800م سير جيشاً من المرتزقة تحت قيادة (الكتخدا علي بك) دربهم مدربون أوروبيون على أحسن الأساليب الحربية، وفي منتصف الطريق وجد نفسه وجيشه في حالة لا يستطيع معها مهاجمة ومجابهة القوات السعودية الباسلة فأسرع (علي) وطلب الصلح من الإمام عبدالعزيز وقفل راجعا من حيث أتى راضيا من الغنيمة بالإياب. وهكذا فشل والي العراق (سليمان) في أن يحقق أمل سلطانه ولكنه استمر في دسائسه الشريرة وتجنيده مرتزقة على فترات أسفرت إحداهن عن استشهاد الإمام عبدالعزيز في بلد الدرعية. وجددت البيعة للإمام البطل سعود بن عبدالعزيز بن محمد آل مقرن وعندئذ تبين بجلاء للسلطان محمود الثاني أن ليس هناك مناص لطلب العون من الوالي الثاني له في مصر (محمد علي) (2) لتدمير وهدم بلد الدرعية مع الوعد عند النصر ان تكون مصر ولاية ممتازة وتمنح الاستقلال وامتثل والي مصر محمد علي لأوامر سلطانه محمود الثاني، وجهز جيشاً من المرتزقة قوامه أربعة عشر ألف مقاتل تحت قيادة ابنه (طوسون) ونزل ينبع في عام 1811م وتقابل مع الجيش السعودي المكون من عشرين ألف مقاتل من الحاضرة والبادية في وادي الصفراء بقيادة البطلين (عبدالله وفيصل) أبناء الإمام سعود وكان النصر حليف القوات السعودية وقتل وفقد من المعتدين عدد كبير جداً يقارب أربعة آلاف (3) ما بين قتيل وهالك وسميت (وقعة الجديدة) فخارت قواهم وفقدوا وعيهم وطلب المعتدي النجدة من والده (محمد علي) فوصل الخبر إلى السلطان (محمود الثاني) في القسطنطينية وأصدر الأوامر المشددة مرة أخرى الى محمد علي. على أن يقوم هو بنفسه بقيادة الحملة ومهاجمة الدولة السعودية وتدمير عاصمتها بلد الدرعية، وبالفعل وصل محمد علي ينبع عام 1813م يحمل المدد لابنه طوسون وأقام سنتين يراوح مكانه ويخادع السلطان محمود الثاني تارة ويناوش الجيش السعودي تارة أخرى. ففي عام 1814م توفي الإمام سعود وجددت البيعة للإمام عبدالله بن سعود بن عبدالعزيز بن محمد آل مقرن وبايعه البادية والحاضرة. وفي العام 1815م قفل محمد علي راجعاً من حيث أتى خوفا أن يقصيه سلطانه عن ولاية مصر ومهاجمتها في غيابه ويخمد الاحتجاجات التي قام بها العرب الشرفاء في مصر المستنكرين لهذا العمل الظالم وسلم القيادة لابنه (طوسون) الذي جنح للصلح والسلم مع القوات السعودية الباسلة بعد فقده خيرة محاربيه. وقفل هو الآخر راجعاً من حيث أتى مع جنده بعد أخذ الأمان من الإمام عبدالله. وأصدر السلطان محمود الثاني إلى واليه في مصر أمراً مشدداً آخر مع الوعد ان تحال له ولاية الشام وتزويده بالجند والمال والخيل والسفن وآلة الحرب. وبالفعل أغرت هذه المنح المتواصلة محمد علي وأرسل جيشاً جراراً قوامه خمسة وعشرون ألف محارب من المرتزقة (الحمر) مزوداً بالمدافع والذخائر ومهمات الجيش، وصل ينبع عام 1816م بقيادة ابنه المتهور ذو السادسة والعشرين من عمره (إبراهيم) يرافقه أعداد كبيرة من الضباط والمهندسين والأطباء الأوروبيين المرتزقة وخيم في الحناكية ستة أشهر يناوش الجيش السعودي وينشط في نهب الأموال والقتل والتهجير وشراء الذمم استعداداً لمهاجمة العاصمة السعودية (بلد الدرعية) وفي العام 1817م زحف المعتدي الى القصيم ووصل الرس وحاصرها من جميع الجهات، وحصل قتال عنيف استبسل فيه الأهالي والمرابطون من الجيش السعودي. وفقد المعتدي ثلاثة آلاف رجل (4) من خيرة محاربيه (الحمر) واستشهد من الجيش السعودي سبعون بطلاً. وارسل محمد علي لابنه إبراهيم مدداً هائلاً من المرتزقة وآلة الحرب عوضا عما فقده وصار في قوة عظيمة. فوقعت المصالحة وزحف المعتدي الى عنيزة ونهب أملاكها واحرق مزارعها، ثم زحف إلى بريدة مدمراً قاتلاً ناهباً كل ما هو في طريقه. ووصل الى الوشم ونزل بلده اشيقر وهاجم شقراء وأشعل النار في المساجد واستبسل الأهالي في مقاومة الغازي الظالم. وفي أول العام 1818م وصل المعتدي الى ضرما وساق جيشه الجرار بالهروات والنار وأهل ضرما والمرابطون من الجيش السعودي ثابتون مدافعون عن البلد وأهله وقتل من المرتزقة ما يقارب ألف محارب. ورحل المعتدي من ضرما بعد تدميرها وتهجير أهلها وواصل سيره وزحفه قاصداً بلد الدرعية وأمر الإمام عبدالله رجاله الأبطال والأهالي بمحاصرة المعتدي وجيشه (الحمر) ومقاتلته في الوادي والمزارع وعلى رؤوس الجبال وإقامة المحاجي ومواقع المقاومة وترحيل النساء والشيوخ والأطفال الى الشعاب والقرى المجاورة، كما ورتب الإمام سرايا المقاومة على النحو التالي: (5)
1- سرية مواقع المحاجي في بطن الوادي تحت قيادة فيصل وإبراهيم وفهد أبناء الإمام سعود بن عبدالعزيز بن محمد بن سعود.
2- سرية مواقع وبروج شعيب الحريقة تحت قيادة عمر وحسن أبناء الإمام سعود بن عبدالعزيز بن محمد بن سعود.
3- سرية مواقع وبروج ظهرة شعيب الحريقة تحت قيادة تركي وزيد أبناء عبدالله بن محمد بن سعود.
4- سرية مواقع وبروج شعيب غبيراء تحت قيادة محمد بن حسن بن مشاري بن سعود.
5- سرية مواقع وبروج ظهرة شعيب غبيراء تحت قيادة محمد بن حسن بن مشاري بن سعود.
6- مواقع وبروج شعيب صفار تحت قيادة سعود بن عبدالله بن محمد بن سعود
7- سرية مواقع وبروج ظهرة شعيب صفار تحت قيادة مشاري بن سعود بن عبدالعزيز.
8- سرية مواقع وبروج ظهرة سمحة تحت قيادة عبدالله بن عبدالعزيز بن محمد بن سعود.
9- سرية مواقع وبروج شعيب المغيصيبي تحت قيادة سعد وتركي أبناء الإمام سعود بن عبدالعزيز بن محمد بن سعود.
10- سرية مواقع وبروج قرى عمران تحت قيادة فهد بن عبدالله بن عبدالعزيز بن محمد بن سعود.
11- مواقع وبروج سمحان لإدارة سير الحرب والمقاومة تحت قيادة الإمام عبدالله بن سعود بن عبدالعزيز بن محمد بن سعود.
وفي 6 أبريل عام 1818م وصل الغازي (إبراهيم) (6) الى العاصمة السعودية من أعلاها عبر وادي حنيفة الواقعة في الجزء الشرقي من قلب الجزيرة العربية وتبعد عن ينبع ما يقارب 700كم ونزل قرية العلب بجيشه وعتاده وتواردت الإمدادات إليه، وطلب الدموي الظالم (الشبك والسعوط) ووجه نيران مدافعه وقنابله وقبوسه على ساكني شعيب المغيصيبي وشعيب الحريقه وواصل جيشه (الحمر) الزحف عبر الوادي الى شعيب غبيراء واشتبك مع سرية شعيب غبيراء وسرية ظهرة شعيب غبيراء استشهد على أثرها مائة بطل وعلى رأسهم الشهيدان فهد بن تركي بن عبدالله قائد سرية غبيراء. ومحمد بن حسن بن مشاري قائد سرية ظهر غبيراء وواصل الغازي سيره وزحفه عبر الوادي الى قلب بلد الدرعية (السهل). وأعاد الإمام ترتيب مواقع المقاومة في الوادي وأمر بإقامة المحاجي والحجائر في يمنه ويسرة الوادي. وهنا فرضت المقاومة على الأهالي الحاضرة والبادية والمرابطين. وجالدوا الغازي وجيشه بالسيوف والبنادق والسلاح الأبيض وقاتلوا قتالا صادقا. وصبروا وانزل الله عليهم الثبات والقوة وقاتلوا قتال الأبطال وتتابعت الامدادات الى المعتدي من الجند وقوافل الطعام وآلة الحرب في كل أسبوع وفي كل شهر وكلما قُتل منهم ألف وصل الى بلد الدرعية الفا محارب من المرتزقة، وبعد مضي خمسة أشهر من القتال ونجاح المقاومة فر المعتدي (إبراهيم) من قرية العلب الى شعيب قرى قصير شمال البلد. وانشغل (الحمر) في دفن موتاهم وعلاج جرحاهم أثناءها وصلت الامدادات بأسلحة حديثة وثقيلة وجهت نيرانها الى منازل ومزارع سمحان والسهل وساق الظالم جيشه بالسيوف والسياط واستبسل المقاومون والمدافعون عن البلد في دفاعهم. وانتقل الغازي الى سمحان ووجه نيران مدافعه الى الظهرة بوابة السهل وأحيائه ودخلت المرتزقة واستبسل الأهالي في صد هؤلاء الهمج وذبحهم بالسيوف والسلاح الأبيض وقاتلوهم قتالا يشيب من هوله المولود وارجعوهم صاغرين يسحبون جثث موتاهم من طرقات السهل. وفي غفلة من المدافعين عن البلد وأهله انفرد رئيس الخيالة وبقرار شخصي وتوجه الى سمحان مقر (إبراهيم) مستسلماً ومن ثم صوب الغازي نيران مدافعه الى منازل آل مقرن (جبل الطريف) من جميع الجهات وهدم ودمر المنازل والمساجد، وفي 9 سبتمبر 1818م وبعد مضي ستة أشهر من الحصار حقنت الدماء وصب الجاني الظالم جام غضبه على البلد وأهله تدميراً للمنازل والمساجد وقتلا وتحقيرا وتعذيبا لعلماء الدين إرضاء لوالده البهيم (محمد علي) والرضى والخنوع موصول الى ولي نعمتهما الباب العالي في القسطنطينية (محمود الثاني). واستشهد من المدافعين عن (بلد الدرعية) من الحاضرة والبادية ألف وثلاثمائة بطل - رحمة الله عليهم -. وفقد المعتدي الظالم من (حُمره) عشرة آلاف عُلجي دفنوا في سفوح جبال الدرعية وشعابها ولم ينتصر هؤلاء العلوج ولكن الله هو المعز والمذل.
عبدالله بن سعد الشبيب
ص.ب 414 الرياض 11411
المراجع
1- صفحات من تاريخ مصر الجزء السابع
2- اكتشاف جزيرة العرب تعريف قدري قلعجي
3- صفحات من تاريخ مصر الجزء السابع
4- المصدر السابق