تمتد معرفتي بأبي هشام إلى اثنتين وثلاثين سنة خلت تجسدت خلالها أواصر المحبة والتقدير والإعجاب. كان رحمه الله آنذاك يشغل منصب أحد كبار المسؤولين في وزارة الخدمات البلدية (وكيلا للوزارة) ويقع على عاتقه مسؤولية إدارة ومتابعة أداء عدد كبير من مرافق الخدمات العامة (المياه، التخطيط الحضري والعمراني، الحدائق العامة، الطرق الداخلية)
وكنت آنذاك أعمل في وزارة المالية والاقتصاد الوطني مسؤولاً عن الميزانية العامة للدولة. وبحكم مراكزنا الوظيفية كانت اللقاءات بيننا تتواصل على نحو منتظم للتشاور والتعاون سعياً وراء انتظام وتيرة تنفيذ مشاريع الخدمات البلدية ومرافقها المتعددة. كما اشتركنا معا في زيارات متعددة ومتتالية لعدد من مناطق المملكة للوقوف على متطلبات التنمية الشاملة لها. كما جمعتنا معا هموم عديد من المؤسسات العامة مثل مصالح المياه والمؤسسة العامة للمرافق الكهربائية وصوامع الغلال والمؤسسة العامة لتحلية المياه حيث اقتضت طبيعة مراكزنا الوظيفية أن نشترك معا في مجالس إدارة هذه المؤسسات.
خلال هذه الفترة المتواصلة على مدى ثمانية عشر عاما كان -رحمه الله- مثالا حيا للصبر والدأب في خدمة الشأن العام والدفاع عنه لا يكل ولا يمل ولم يتسرب إلى عزيمته الإحباط أو اليأس رغم قسوة الطبيعة واختلاف مشارب البشر الذين يقتضي الأمر أن يتعامل معهم. بل كان يتصرف بروح إيجابية ويتمتع بنظرة متفائلة وبهدوء لا يبدده انفعال وبموضوعية في غاية التوازن. وكنا زملاءه ومحبيه نلحظ ذلك ونكبره فيه.
وبحكم مركزه الوظيفي في وزارة الخدمات البلدية وموقعي في وزارة المالية والاقتصاد الوطني كنا نختلف أحياناً في نظرة كل منا وتقديره إلا أن هذا الاختلاف في المواقف لم يتجاوز مطلقاً الحد المألوف من عدم تطابق بعض الآراء. كان رحمه الله يدرك في قرارة نفسه أن درجة الاختلاف في المواقف ما هو إلا تعبير عن نظرة كل مسؤول إلى الأمور من الزاوية المناطة به. فكان مع حماسه في إيضاح موقفه وتشدده فيه يدرك تماماً أن لدى الطرف الآخر اعتبارات أخرى فسرعان ما يعود إليه هدؤه واتزانه المعهودين.
بعد انتقاله إلى رحاب مجلس الشورى قبل أربعة عشر ربيعاً لم ينقطع التواصل معه وان قلت اللقاءات واختلفت موضوعاتها عن ذي قبل. ولكن الله أراد لهذا التواصل أن يتعزز ويتعاظم حيث شاركته الدورة الثالثة لمجلس الشورى. ومن حسن حظي أن المقعد الذي خصص لي في قاعة المجلس كان مجاوراً لمقعده تماماً. وخلال هذا الدور حظيت بالشيء الكثير فإلى جانب الإسهام مع زملائي في المجلس في قضايا الشأن العام استعدت بعضاً مما افتقدته من مناقشات وجدل وفكاهات مع رفيق الشأن العام الدكتور صالح بن عبدالله المالك -رحمه الله-.
في هذه الدورة ومن خلال الشورى كانت مواقفنا (هو وأنا) متطابقة تماماً سواء داخل القاعة العامة للمجلس أو في لجانه المتخصصة التي اشتركنا فيها معاً. كما قمنا (هو وأنا مع بعض الزملاء الآخرين) بزيارات لكل من المملكة المتحدة والدانمارك ممثلين لمجلس الشورى حيث تم خلال هذه الزيارات عقد لقاءات متعددة مع مجموعة من اللجان البرلمانية ومؤسسات المجتمع المدني في تلك البلدان سعياً نحو إيضاح موقف المملكة ونظرتها للعديد من القضايا ذات الاهتمام المشترك، وخلال هذه اللقاءات أظهر الدكتور صالح -رحمه الله- مهارة فائقة في سرد مراحل التطور التي شهدتها المملكة في تاريخها الحديث وأنها بهذا الانتقال المتدرج تنسجم مع سنه التطور الحضاري والاجتماعي التي مرت بها معظم الأمم والشعوب الحيه. وكان رحمه الله يستمد من التاريخ ومن سجله الحافل بالمتغيرات ما يساعده على تعزيز ملاحظاته.
خلال سنوات الشورى القصيرة نسبيا (أربع سنوات) التي أمضيتها إلى جانبه أدركت عمق التجربة التي اكتسبها المرحوم في حياته العملية والتي أثرته بالكثير من العبر والدروس كما أدركت أيضا مدى ما يتمتع به من ثقافة واسعة متنوعة وإلمام كبير بالعديد من علوم الحياة والشريعة. كان رحمه الله موسوعة علمية متنوعة ومتعددة الجوانب اكسبته مقدرة فائقة في استيعاب ما حوله وما يحيط من مواقف وآراء. كان الصدق والاخلاص ومحبة الوطن عشقه الذي لازمه طيلة حياته ولم تصرفه عن ذلك الاوجاع والآلام التي عانى منها في أيامه الأخيرة. بل استمر وفياً للكلمة الصادقة والنصح السديد ونموذجاً صادقا للنبل والأخلاق الكريمة. هذا النهج في حياته هيأ له الكثير من الأصدقاء والمحبين. وما هذه الجموع التي تترى على منزل المالك في الرياض لتقديم العزاء والمواساة في فقده والمقالات وقصائد الرثاء التي حفلت بها صحفنا المحلية والإقليمية إلا دليل على ما يتمتع به -رحمه الله- من مكانة عالية وأنه يحتل في نفوسهم مركزاً متقدماً من الحب والتقدير. فمن كان هذا دأبه وتلك مسيرته فليهنأ قرير العين بما قدمه لمجتمعه ووطنه.
وداعا أبا هشام، وإلى لقاء يتجدد إن شاء الله في جنة الخلد.
نائب وزير المالية سابقا