شكل الخبر وتفاصيله يعطينا فكرة سريعة وقوية عن الطريقة التي يفكر به الإنسان الغربي وكيف وصل هذا الإنسان عبر طرقات الدم والعلم والعقل الطوال إلى موقف من العالم ومن الآخر ومن ماضيه أيضاً. يقدم الخبر خلطة عجيبة من المواقف التي يحتاج كثير منا إلى مئات السنين لا لتبنيها ولكن لفهمها فقط واستيعابها. قبل الدخول في مضمون الخبر تذكرت أنه قبل سنوات ثارت ثائرة بعض السكان في ألمانيا احتجاجاً على بناء مسجد. إذا بقي الخبر عند هذا الحد فالمنصف سيحترم رأي السكان, فكما يرفض المسلمون بناء كنائس على أرضهم فمن حق أصحاب الأرض الألمانية رفض بناء مساجد على أرضهم, لكن هذا المنصف هو أقرب إلى الجهل منه إلى الإنصاف. هذا المنصف يأخذ المسألة واحدة بواحدة. لا يعرف أن من حق المسلمين بناء مساجد لهم في ألمانيا وأن تدفع الحكومة الألمانية مساعدة لبناء هذا المسجد وليس من حق المسيحيين بالمقابل مطالبة هؤلاء ببناء كنيسة على أرضهم. فالعلمانية التي تنتهجها ألمانيا تفرض على ألمانيا حق حماية ورعاية حرية الأديان لا مقارعة الأديان. ليس هذا الإنصاف الذي يدعيه هذا المنصف إلا صورة متخلفة تتظاهر بالعدالة وتخفي الكراهية و تكرس الصراع القديم والتناحر بين الأديان. هذا الإنصاف هو نسف لقيمة يعتز بها الألماني. قيمة قاتل من أجلها سنين طويلة. الذي يقول من حق الألماني أن يمنع بناء مسجد على أرضه هو في الواقع لا ينصف الألماني بل يعاديه ويسيء لقيمه التي مات ملايين من آبائه وأجداده من أجل الوصول إليها.
يأتينا الخبر اليوم من ألمانيا أيضا (الجزيرة 19-9-2008م). أعتقد أن من واجب الإعلام تغطية كامل تفاصيله. درس لابد منه. تستضيف كولونيا (ألمانيا) مؤتمراً معادياً لانتشار الإسلام. ينظم المؤتمر عدد من المنظمات اليمينية المتطرفة. هذه المنظمات في مجملها ليست معادية للإسلام تحديداً ولكنها معادية لكل شيء غير أوروبي وتقوم على العنصرية القومية أساساً. مؤتمر كهذا ليس غريباً ولن يكون الأخير. المهم في الخبر خلطة العناصر التي تناهض هذا المؤتمر وتتحالف مع المسلمين. نقرأ في ثنايا الخبر. (تتوقع الشرطة من جهتها ألا يتعدى عدد المشاركين في (المؤتمر) بضع مئات، فيما أعلن عن نحو عشرين تظاهرة مضادة تجري الكبرى بينها صباح غد بدعوة من اتحاد النقابات الألمانية وعدد من الكنائس).
نلاحظ تحالف النقابات مع عدد من الكنائس للدفاع عن حق المسلمين في بناء مسجدهم وإقامة شعائرهم. تحالف الديني مع المدني لإفشال مؤتمر العنصرية. إذا نظرنا للخبر مرة أخرى سنجد أن المؤتمرين ليسوا سوى شرذمة شاذة عن البنية الثقافية والفكرية الألمانية والغربية ككل. لا يتعدى عددهم بضع مئات. في المقابل يتوقع أن يشارك في المظاهرات المناهضة للمؤتمر ستون ألف متظاهر يأتون من خلفيات ثقافية متنوعة. لا تأتي مثل هذه المظاهرات للتعبير عن
محبتهم للإسلام أو أي دين آخر ولكنها تأكيداً وصيانة لقيمة الحرية التي يجب أن يتمتع بظلالها الوارفة كل من يعيش على أرض الحضارة الغربية.
YARA.BKEET@GMAIL.COM