إذا كانت الدولة لا تُرى، فإن فئات المجتمع ومؤسساته هي الصورة المجهرية للدولة.. والدولة مفهوم عام مجرد يُعبَّر عنه بصور مختلفة وبتعبيرات وظيفية متعددة وفقاً لظروف المكان والزمان والحالة الاجتماعية، خلصنا في المقالتين السابقتين إلى أن الأوضاع الاقتصادية الاجتماعية في العالم العربي، تتصف بعدم نضج اقتصادها الوطني..
.. وعدم اكتمال بناء الطبقة الوسطى وضعف وهامشية الطبقات المؤثرة في قوة العمل الإنتاجي، مقابل قوة الدولة التي تم إنشاء أجهزتها الضخمة (البيروقراطية والعسكرية). وهذا يفضي بالدولة إلى أن تقود الاقتصاد والمجتمع، ولكن لأنها منقادة للاقتصاد الدولي فهي تواجه تحدياً ضخماً في الموازنة بين متطلبات الداخل وضغوط الخارج.. والإخلال بهذا التوازن يفسر كثيراً من الأزمات في العالم العربي (وما حوله) ومنها أزمة استكمال بناء الدولة وبقائها..
فالدولة في العالم الثالث نشأت قبل نضج الاقتصاد المحلي ولم تتح فرصة كافية من الوقت لتراكم رأسمال وطني، فأصبح الاقتصاد والسوق والعمليات المرتبطة بالإنتاج تخضع للسياسة ومنطق الدولة بأجهزتها البيروقراطية الضخمة وجيشها. وهذا يفسر جزئياً أزمة الحريات في العالم الثالث عموماً، والعالم العربي خصوصا.
ويرى بعض المفكرين الغربيين أن عدم استقرار كثير من الحكومات في البلدان النامية هو نتيجة لعدم تحديد مجتمعاتها لمفهوم الدولة والأسس والأنماط المعيارية (أخلاقياً وتنفيذياً) التي تحكم المجتمع، حيث لا يزال الصراع مستمرا لتحديد هذه الأسس. ويرجع البعض ذلك إلى أنه بعد الاستعمار انبعثت الدولة في كثير من مناطق العالم الثالث كمفهوم قانوني لها شرعية دولية، رغم عدم توافر العوامل الاجتماعية والتنظيمية والاقتصادية التي تتطلب نشوء دولة كحقيقة واقعة، بينما في الغرب -مثلا- نشأت الدول ككيانات اجتماعية اقتصادية سياسية عسكرية ثم حاولت أن تحصل على اعتراف قانوني يشرِّع وجودها.. ومن ثم فإن ذلك أعاق بعض دول العالم الثالث من إنتاج عوامل ولادتها الطبيعية وبناء دولة فعلية.
وخلال بناء الدولة في العالم الثالث وأثناء قيامها بمهامها، تشكلت شرائح اجتماعية نخبوية من التكنوقراط والخبراء والمثقفين كرديف للطبقة الحاكمة أو كجزء منها، وذلك نتيجة لسيطرتها على الأجهزة الإدارية. وفي كثير من الحالات تدخل هذه الشرائح في السيطرة الاقتصادية أيضا، ليس بسبب سيطرتها على وسائل الإنتاج كطبقة رأسمالية، بل لسيطرتها على صناعة واتخاذ القرار الاقتصادي. وتنخرط هذه الشرائح داخل المجتمع داعمة الجماعات التي تنتمي إليها، وفي نفس الوقت تنخرط أجزاء من طبقات المجتمع الوسطى والدنيا في أجهزة الدولة كمصدر رزق، لتقوم بخدمة ودعم توجهات الدولة داخل فئاتها الاجتماعية..
الشرائح النخبوية أو الطبقة الجديدة أو الطبقة الوليدة التي يسميها ريتشارد سكلار بالبرجوازية الإدارية، تقوم بدور المنظِّم بين الجماعات والفئات المختلفة داخل المجتمع، وتجعلها معتمدة بوجودها على الدولة. كما أن هذه البرجوازية الإدارية لا ينحصر نفوذها على جهاز الدولة فقط كما سبقت الإشارة، بل يتعداه إلى سيطرتها على العمل التجاري العام والخاص، ويمتد إلى مؤسسات المجتمع المدني، فهي تكاد تسيطر على مجالس إدارتها، سواء كانت منتخبة أو غير منتخبة.. ويمتد أكثر داخل العلاقات الاجتماعية والجماعات الاجتماعية لتغدو أيضاً متزعمة لها، وهو الآن يمتد إلى السيطرة على وسائل الإعلام والثقافة..
والسؤال هو هل تقوم هذه البرجوازية الإدارية بدعم المجتمع المدني أم بالمحافظة على المجتمع التقليدي وعرقلة نمو المجتمع المدني؟ يبدو للوهلة الأولى أنه لا هذه ولا تلك.. فعبر هذه الطبقة الوليدة يقوم جهاز الدولة بتغييب أجزاء من الأنماط والمؤسسات الاجتماعية الأساسية أو اختزالها وحلول أنظمة الدولة محلها، وقد تصل -كما في حالة الدولة الشمولية- إلى نفي هذه العلاقات أو تحييدها عن طريق المبالغة في تكريس نمط الحكم المركزي من جيش وبيروقراطية..
وتتفاوت الدول العربية في تعاملها مع الجانب الاجتماعي والجماعات الاجتماعية، فهي تحاول تطويره حينا، أو تعديله وتهذيبه حينا، وتحجبه أو تنفيه حيناً آخر.. وفي كل الأحوال فإن الخطاب الاجتماعي غالباً ما يفرض عليه أن يكون خطاباً متماهياً مع خطاب الدولة أو مصرحا به كحالة استثنائية من الدولة. فالمؤسسة الاجتماعية المدنية عليها أن تكون تابعة ضمنيا لجهاز الدولة وإن لم تتبعها بيروقراطيا..
هذا المفهوم الشمولي للدولة يكاد يكون هو السائد في الفكر العربي، فكثير من المفكرين والمثقفين نظَّروا لهذا الأسلوب بشكل غير مباشر، نتيجة لطروحاتهم التي ترى أن الدولة هي عبارة عن تمثيل عضوي كامل صاف للمجتمع، مما يعني الافتراض أن المجتمع لا بد أن ينصهر في جماعة واحدة، وهذا مناقض للطبيعة ولسنن الحياة وتفريغ للمجتمع من مضمونه الحيوي.. وطريقة التفكير التوحيدية هذه هي التي أوصلت كثيراً من الدول العربية إلى اعتبار كافة مؤسسات المجتمع المدني (النقابات والاتحادات والجمعيات والهيئات والأندية) عبارة عن مؤسسات خاصة للدولة..
صحيح أن الدولة تمثل المجتمع لكنها ليست صورة تفصيلة عنه.. صحيح أن الدولة الحديثة تتوج المؤسسات والعلاقات والطبقات الاجتماعية وتستعيدها في إطار وحدة عامة شاملة (وضاح شرارة).. وصحيح أنها تجسيد لإرادة العموم وصورة للسلطة العامة، إلا أن الدولة الحديثة مستقلة ومتسامية عن المجتمع بصراعاته الاجتماعية وتقسيماته الطبقية وعلاقاته الاقتصادية.. إنها العقد الاجتماعي (دولة القانون والمؤسسات) وضامنة الحريات الخاصة والعامة، ومنها حرية إنشاء مؤسسات مجتمع مدني مستقلة..
الاعتقاد بأن استقلال مؤسسات المجتمع المدني والهيئات المهنية والنقابات عن الدولة يعني خصومتها أو تأثيرها الضار للدولة، لا يدعمه فقط طريقة التفكير التي أشرت إليها، بل واقع بعض الجماعات والتكتلات والفئات الاجتماعية التي تعارض الحكومة أو الدولة، فنجد كثيراً منها هدفه إسقاط الحكومة أو الدولة بالكامل، وبطبيعة الحال، لا يمكن الطلب من الدولة أن تمنح مثل هذه الجماعات فرص الانقضاض عليها.. وهذا الوضع - مثلما سبقت الإشارة- ناتج عن عدم تحديد مجتمعاتها لمفهوم الدولة والأسس والأنماط المعيارية (أخلاقياً وتنفيذياً) التي تحكم المجتمع..
ولكن الدولة العربية تواجه ضرورة التحديث وبناء المؤسسات الحديثة، لكي تبقى دولة قوية قادرة على البقاء والنماء ومواجهة التحديات.. فمن الضروري لهذه الدولة أن تدعم تنمية المجتمع وأن تفسح المجال (بل وتشجع أحياناً) لإنشاء مؤسسات المجتمع المدني.. وهنا تأتي ضرورة التوعية بأن مؤسسات المجتمع المدني ليس نداً للدولة، بل مكملاً لعملها..
في الموازنة التي تقوم بها الدولة بين دعمها لمؤسسات المجتمع المدني وبين خشيتها من ظهور مؤسسات معادية أو تنمية روح عدائية ضد الدولة، ليس أمام الدولة العربية إلا الخيار الأول، حيث الخيار الثاني نتائجه أصبحت مؤكدة الفشل، لأنها لم تنتج سوى القمع والتطرف والعنف والتأخر العلمي والحضاري، التي أوصلت الدولة في النهاية إلى مآزق، بعض الدول لم تنج منها فانهارت.
alhebib@yahoo.com