لم يبق إلا يومان، أو يوم واحد، ويتم وداع شهر رمضان الكريم لأمتنا المسلمة ووداعه لها. وكان من يندر وجود أمثاله في مجتمعنا قدرة على التعبير، ومن هو على امتلاك ناصية روعة الشعر والنثر قدير، الدكتور غازي القصيبي، قد ودع رمضان قبل دخوله
هذا الشهر الملوِّح بأردان وداعه بأيام. وكان ذلك الوداع لرمضان عرفه، وتمتع بكل ما كان فيه من متع روحانية سامية وتجليات مودة اجتماعية رائعة، تماماً كما ودع ذلك الرمضان الكثيرون من أبناء جيل الدكتور.. زاده الله صحة ومقدرة على عطاء فكري متدفق إبداعاً. كان ذلك الرمضان - بكل متعه الروحانية السامية وتجليات المودة الاجتماعية الرائعة فيه - نقياً هانئاً، كما قال أبو سهيل ويارا، لم يكدِّر صفوه ما كدره. كان نقياً من شوائب ابتلي بها قصداً أو عن غير قصد. هناك أناس مكنهم الله من امتلاك وسائل إعلام لها قدراتها الفنية القوية. وفي هذه الوسائل ما فيها من وجوه إيجابية خيرة، لكن فيها ما فيها من شوائب لو تأمل المالكون لتلك الوسائل مواقفهم حق التأمل لسارعوا إلى رعاية أمانة الرسالة الإعلامية التي مكنهم الله من امتلاك وسائلها، حق الرعاية. لو فكروا وقدروا حق التفكير والتقدير في بعض ما تبثه وسائل الإعلام التي يملكونها من مواد وبرامج هابطة المستوى ذوقاً ومضموناً لتبنوا ما ينفع الناس فكراً نيراً وإمتاعاً سامياً نقياً.
من الذين يملكون تلك الوسائل الإعلامية ذات القدرة الفنية القوية من ينتمون إلى أسر كريمة يأمل المخلصون من المواطنين أن يكون انتماؤهم إليها دافعاً قوياً لملامسة نوازع الخير في نفوسهم كي يرى الجميع ما يملكونه من وسائل إعلامية مقتدرة فنياً مؤدياً الدور الإيجابي المأمول. وما ذلك عليهم بعزيز.
فضل شهر رمضان المبارك فضل عظيم، كيف لا والله - سبحانه وتعالى - قد جعل أوله رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتقاً من النار؟ ولليالي العشر الأخيرة منه أجزل الفضل وأعظمه؛ ولذلك كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحرص ما يكون اجتهاداً في إحيائها تقرباً إلى خالقه وبارئه - تبارك وتعالى - بأنواع العبادة فيها. ومن وجوه فضائل هذه الليالي العشر كون ليلة القدر - على الأرجح - من بينها. ولهذه الليلة من الشرف والمكانة ما أوضحه الله في كتابه العزيز؛ فقد قال - عز من قائل - إنها الليلة التي أُنزل فيها القرآن (هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ).
وإنها خير من ألف شهر.. ليلة مباركة (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ).. تلك الليلة التي قال عنها الصادق الأمين، نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -: (من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)، وأمر صحابته الأخيار الكرام الأبرار بأن يتحروها في الوتر من العشر الأواخر من الشهر المبارك، ولا سيما ليلة السابع والعشرين منها. تقبل الله من جميع المسلمين كل عمل صالح قاموا به طاعةً له وشكراً على نعمه التي لا تحصى.
أما بعد:
فلم يبق إلا يومان، أو يوم واحد لأن تستقبل الأمة المسلمة عيد الفطر المبارك، وحنين أبي سهيل ويارا إلى ذلك الرمضان بكل متعه الروحانية وتجليات المودة الاجتماعية الرائعة فيه بين أفراد المجتمع يلامس عاطفة كاتب هذه السطور، فتعود به الذاكرة، أو يستعيدها إلى ختام رمضان الأمس الممتع بعبق الروحانية والمودة.. إلى عيد الزمن الأول. وكنت قد أشرت إلى ذلك في مقالة عنوانها: (كان العيد عيداً) نشرت قبل ست سنوات مقارناً بين عيد الأمس وعيد اليوم، وبخاصة لدى الأطفال والصبيان، قلت في مستهل تلك الإشارة ما مضمونه:
قد يقول قائل: إن ثناء المرء على شيء مر به أو مارسه، في مرحلة الطفولة، مبعثه حنينه إلى متعة بريئة كان يرتع في أفياء ظلها بعيداً عن تحمُّل مسؤوليات الحياة المتعبة حين يبلغ مرحلة الكهولة، وإن ثناءه على أمر عهده في مرحلة صباه سببه ما كانت توحيه تلك المرحلة المتوهجة بالنشاط، وإدراكه لقدرته على التلذذ بما وهبه الله من طيبات الحياة المتنوعة. ولهذا القول عن المرحلتين المذكورتين جانبه من الصواب، على أن المرء لو ابتعد عن هذا القول بكل ما فيه من صحة وصواب ليقارن مقارنة المتأمل في حياة مجتمع هذا الوطن بالذات بين أمسه ويومه، لوجد بواعث وأسباباً أخرى تجعله يميل إلى التسليم بأن مرحلتي الطفولة والصبا في الماضي مع قلة الإمكانات المادية كانتا أكثر متعة من مرحلتي الطفولة والصبا في الوقت الحاضر مع توافر تلك الإمكانات.
ولقد ذكرت بشيء من التفصيل بعضاً من تلك البواعث والأسباب، وختمت المقالة بالقول: لم يعد الأطفال يتمتعون بالأيام السابقة ليوم العيد كما كان يتمتع أمثالهم بالأمس، حصولاً على ما يؤمل مع قلَّته، وسعادة به، وامتداداً زمنياً بالتمتع فيه، ولم يعد الصبيان يفرحون بليلة العيد.. ليلة مميزة تمتزج فيها مشاعر الفرح بالاجتماع الأخوي بمشاعر السرور بما تهيأ نتيجة سعي لتهيئته وتنظيم في تحقيقه؛ فهل يلام من قال: (كان العيد عيداً؟).
أما بعد مرة أخرى:
فإني أجد نفسي، في ختام هذه المقالة، ميالاً إلى رفع كفي الضراعة إلى الله الذي له الأسماء الحسنى قائلاً:
اللهم يا مجيب دعوة الداعي إذا دعاك، وموئل رجاء الراجي إذا رجاك، تقبل - بجودك وكرمك - كل عمل صالح من عبادك المؤمنين بك رباً لا شريك له، وبنبيك محمد - صلى الله عليه وسلم - رسولاً، وبالإسلام خاتم رسالات التوحيد ديناً، واجعل عيدهم عيداً سعيداً، وأعده عليهم وهم يرفلون في حُلل من الطمأنينة والعيش الكريم.
اللهم يا مجيب دعوة الداعي إذا دعاك، وموئل رجاء الراجي إذا رجاك، هيئ للأمة المسلمة من أمرها رشداً، ووفقها، قادةً وشعوباً، لتعمل ما يخلصها - بعونك - مما هو حالٌّ بها من كوارث تسرُّ أعداءها، وتبذل الجهد لتفادي ما يُدبَّر ضدها من أمور ذات عواقب لا يعلم فداحتها إلا أنت وحدك العليم الخبير.
اللهم يا مجيب دعوة الداعي إذا دعاك، وموئل رجاء الراجي إذا رجاك، نوِّر بصائر من تولوا مقاليد أمور أمتنا ليدركوا أن قوتهم تكمن في أداء الأمانة التي تحمَّلوا مسؤولية القيام بأدائها خير الأداء، وليعلموا، ويتيقنوا أن عداوة أعداء الأمة المسلمة، وبخاصة العرب منها، متأصلة راسخة الجذور، وأن مواجهة هؤلاء الأعداء لإزالة عدوانهم الحال، وتفادي ما يخططون لارتكابه من عدوان، لن ينجح بالتذلل لهم ومدِّ أيدي الاستجداء إليهم بل بالتمسك بثوابت الدين القيم والتماسك في الصفوف وتوظيف القدرات شبه المعطلة معنوياً ومادياً.
اللهم يا مجيب دعوة الداعي إذا دعاك، وموئل رجاء الراجي إذا رجاك، انصر أمتنا على أعدائها من خارجها، وانصرها على أعدائها من داخلها، واهدها إلى الصراط المستقيم والمنهج القويم لتحقيق النصر المأمول الذي وعدت به عبادك الصالحين.. إنك لا تخلف الميعاد.